رسالة إلى فرسان التغيير الدولة المدنية أو ما هو أعمق من الانتقال الديمقراطي؟
د. خالد شوكات*
قريبا، بعد اشهر قليلة فقط، سنحتفل بالذكرى العاشرة لانطلاق مسار الانتقال الديمقراطي، وهو الية التغيير السياسي التي اختارها التونسيون لتحقيق أهداف الثورة بعد نجاحها في إنهاء النظام التسلطي السابق يوم 14 جانفي 2011، ولان الثورة كانت بلا رأس أو قيادة أو برنامج تغيير واضح حينها، لم يطرح اي بديل اخر للانتقال الديمقراطي، ناهيك عن مقدّمات التاريخ التونسي الحديث والمعاصر التي فرضت تحويل السياق الثوري الهادر الى سياق اصلاحي هادئ، أي هذه التجربة الوطنية في التحول إلى الديمقراطية.
بعد عشر سنوات من ممارسة الانتقال الديمقراطي عبر اُسلوب التجربة والخطأ، يمكن الإقرار بوجهين متناقضين للمسألة، الأول ان تونس استطاعت قياسا بغيرها الحفاظ على تجربتها الديمقراطية الناشئة، فلا هي انزلقت للعنف والحرب الأهلية ولا هي تراجعت الى تبني النظام الاستبدادي، أما الثاني فان لا أحد من التونسيين بمقدوره الجزم اليوم، رغم مرور عقد من الزمان بأن سفينة هذه التجربة قد ادركت بر الامان، فالتونسيون انطلقوا قبل عشر سنوات منقسمين الى “ثوّار” يتوعّدون “أزلاماً” بالويل والثبور، وانتهوا بعد عقد من الزمان “أزلاماً” يتوعدون “ثوّارا” بإعادتهم للسجون والمنافي من جديد.
لقد سار التونسيون طيلة هذه السنوات ما بعد الثورة على حافة الهاوية اكثر من مرة يكادون يقعون فيها، لكن عقلهم الجمعي اسعفهم دائما في العودة الى الجادة وتوقيع التوافقات الضرورية لاستئناف المسير في الطريق الصحيح. لقد نظم التونسيون اكثر من مرة انتخابات شفافة ونزيهة بمعايير دولية، وصنفتهم التقارير العالمية باعتبارهم الديمقراطية الوحيدة في المنطقة العربية، وتوّجهم العالم بجائزة نوبل للسلام تقديرا لتجربتهم في الحوار الوطني وإصرارهم على القطع مع الماضي الديكتاتوري.
صور كثيرة رسمها التونسيون أبهرت المجتمع الدولي في التداول السلمي على السلطة ومحاسبة الحكام ومحاربة الفساد واحترام الحرّيات والتشبث بالمواطنة الحقيقية والمساواة. بالمقابل، تعثرت مسارات الاصلاح الاقتصادي والاستجابة لتطلعات المواطنين في تحسين مرافق الخدمة العمومية والنهوض بالحالة الاجتماعية وخاصة مكافحة بطالة الشباب العاطل عن العمل بأغلبيتهم الحاملة لشهادات جامعية، مما زرع اليأس والاحباط في الأوساط الشعبية ووفر بيئة خصبة للتيارات المتطرفة العنيفة والشعبوية الماضوية والسلفية والثورية، وضعفت تيارات الاعتدال والوسطية والتوافق والمصالحة الوطنية، وعادت هذه الديمقراطية الوليدة غير مقنعة بالمرة لشرائح واسعة من التونسيين.
لم تتمكن الحياة السياسية الديمقراطية الجديدة من فرض قيمها ومبادئها، وبدت الهوة شاسعة بين النصوص الدستورية والقانونية رفيعة المستوى والسلوك اليومي للمواطنين نخباً وجمهوراً المتسم بقدر لا بأس به من الرداءة والانحطاط، ومن يتابع حوارات التونسيين العنيفة من الناحية اللفظية، وتوصيفهم لبعضهم وتبادل تهم التخوين والتكفير فيما بينهم، وإصرارهم على عدم الالتزام باي منظومة اخلاقية في ادارة خلافاتهم وصراعاتهم، وتشبثهم بالبقاء في فضاء الأيديولوجيات المطلقة وعدم الانتقال الى عالم الافكار والبرامج التنموية النسبية، سيدرك بالضرورة مدى عمق الأزمة الفكرية والأخلاقية السائدة، على نحو يعيق التقدم السياسي والتنموي المطلوب. دون اطالة، لقد انتبه التونسيون الى متطلبات الانتقال الديمقراطي الظاهرية والسطحية، ولم يولوا العناية الكافية للبنية المعرفية العميقة، والبنية الفكرية التحتية، بما هي القاعدة الصلبة والاسس التي يقوم عليها بناء الانتقال الديمقراطي، تلك الثقافة المواطنية وذلك العقل السياسي المهيمن الذي يستوجب مراجعة محدداته الفاسدة حتى تستقيم تجلياته وتصلح نتائجه.
لا يمكن إقامة الديمقراطية دون ديمقراطيين، كما تقول القاعدة المعروفة المستقرة في الفكر السياسي الديمقراطي عبر تجارب قرون من الممارسة في مختلف قارات العالم، وليس العالم الغربي فحسب، ومن هنا استوجب الانتباه والعمل فيما هو أعمق من الانتقال الديمقراطي وهو احد اهم شروط التمكين له. لقد توصل العقل التونسي الجمعي الى تبني مقاربات نظرية غاية في الاهمية من حيث توفير احتياجات الانتقال الديمقراطي وتوفير أسباب النجاح له، من قبيل مقاربة “الدولة المدنية” التي جرى دسترتها في المادة الثانية من دستور الجمهورية الثانية وهي مادة غير قابلة للمراجعة. الدولة المدنية التي شكلت حلّا تاريخيا للصراع الاسلامي العلماني وقاعدة صلبة للنظام الديمقراطي، وجمعت بين متطلبات العصر في احترام الحرّيات وحقوق الانسان ومستوجبات الاصالة والهوية بما هو سعي للتمايز الحضاري عن الغرب المهيمن مصطلحا ومضمونًا، ولكن هل صاحب اعتمادنا هذه المقاربة من الناحيتين الدستورية والقانونية، ما يشير الى وعينا باهمية التمكين لهذه المقاربة في مناهجنا التربوية والتعليمية والتثقيفية، والى ما يدل على تصميمنا على خلق اجيال جديدة تحمل قيم الدولة المدنية ومبادئها.
إن هذا المسار المهمل في التثقيف السياسي، لا يهدد فقط المسار العام في الانتقال الديمقراطي، بل يهدد هذه التجربة الانسانية الرائدة والمختلفة على الصعيدين الاقليمي والدولي، وهو ما يستوجب المراجعة ويتطلب من الدولة والمجتمع المدني تعبئة الجهود والتنسيق فيما بينهما إعدادًا لهذا الجيل الموعود.. جيل التغيير الديمقراطي الحامل لقيم الدولة المدنية الانسانية ومبادئها السامية. *رئيس المعهد العربي للديمقراطية
Comments