الجديد

خالد شوكات

“رمضانيات”: يكتبها خالد شوكات:”التصوّف الوجه الإنساني للإسلام” /3/

خالد شوكات

ليست الأديان في جوهرها إلا طرقا إلى الله لمن أدرك، طرق متساوية، أي واحد سلكت حقا فقد وصلت، غير أن السطحية تعمي البصائر، و تواضع العرفان مفض بالضرورة إلى تشوه الإيمان، و من حيث أن الأديان رسائل رحمة ومودة ومسح على معاناة البشر، أضحت بفعل عمى القلوب وانحراف العقائد وهوى الأنفس، رحى الحروب وبيانات القتل ومطية الأحقاد والضغائن.

ان الإسلام طريق عظيم إلى الله، و قد أدرك مسلمون عظماء المسؤولية الملقاة على عاتقهم في الدفاع عن النسخة الإنسانية لهذا الدين، الذي بعث نبيه رحمة للعالمين، و وعوا مبكرا خطورة ربط العقيدة بالسلطان و طموحات الملك العربي الصاعد في البدء، وتصوفوا، فقيل أنهم من أهل “الصفة” فقراء رسول الله (ص)، الذين لبسوا الصوف و اعتصموا بالتوحيد ونبذوا اللهث وراء أموال الفيء والخراج وجواريه الحسان.

كما قيل عن متصوفة الإسلام الأوائل، أنهم من طلب الحكمة، أي أصل الضوء لا ظله الذي يخدع عموم الناس، و “صوفي” اللفظ الإغريقي، الذي كان للعرب فضل نقله عبر الحواضر الأندلسية إلى الغرب، و “من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” كما جاء في القرءان الكريم”، والحكمة أيضا مرادفة من مرادفات الفلسفة، أو إحدى غاياتها على الأقل. وقيل سابقا الحكيم بمعنى الفيلسوف، كما قيل المتكلم أحيانا.

قال أهل الفكر، أن الصوفية ظاهرة إنسانية، موجودة في كافة العقائد تقريبا، السماوية منها والأرضية، التوحيدية منها والتأملية، وهي موجودة بالفعل لا باللفظ، فهي اعتقاد وسلوك، أما رأيي فالصوفية ليست سوى “التأويل الإنساني للعقيدة المحمدية” في مقابل تأويلات أخرى قومية وطائفية وسلفية سطحية، و لهذا فقد وجدت معالمها في سائر العقائد والأديان الأخرى، فما من دين إلا و له تأويل إنساني كما سلف.

ومن أصول الإنسانية في صوفية الإسلام، نأي المتصوفة بأنفسهم عن الحكم والسلطان، و رأيهم غير المعلن شبيه برأي حواريي السيد المسيح (ع) وسيدهم “أن ما لقيصر لقيصر و ما لله لله”، وفي المبدأ مظهر عظيم للإنسانية يعلم أن مرام الأديان توحيد الله ومحبة خلقه، لا إغراق اسم الله في تفاصيل حياة البشر اليومية وصراعاتهم الأرضية.

أما أصل الإنسانية الثاني عند المتصوفة المسلمين، فهو اعتبارهم الدين وسيلة لا غاية، ومن ذلك سعتهم للبشر جميعا باعتبارهم “عيال الله” وباعتبار الإسلام ملكا للبشرية جمعاء لا للمسلمين فحسب.

وقد بلغت السعة الإنسانية عند شيخ الإسلام إبن عربي الحاتمي الأندلسي، مبلغها، عند قوله أبياته المشهورة: لقد صار قلبي قابلا كل صورة…فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف…وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت…ركائبه فالحب ديني وإيماني وقد دفع متصوفون مسلمون حياتهم ثمنا لنظرة السعة الإنسانية هذه، وواجهوا مصيرهم البائس بشجاعة مبهرة، على أيدي أعوان السلطان وزبانية الفكر السطحي الضيق،

كان في مقدمة شهداء الصوفية الحسين بن منصور الحلاج خلال القرن الرابع الهجري، حيث شنقه المتعصبون من أهل السنة بعد اتهامه ب”القرمطة” وزعم اعتقاده بحلول اللاهوت في الناسوت، بينما كان الحلاج داعية عظيما لنظرية وحدة الوجود، وهي في عمقها نظرية في العشق الإلهي تقول بذوبان العاشق في المعشوق وتوحده المعنوي والروحي معه، وفي للأمر سند في القرءان، فقد نفخ الله في الإنسان من روحه، أفلا يكون من الله.

في نظرية الناي للمتصوف العظيم شاعر القرن الثالث عشر، مولانا محمد جلال الدين الرومي، صاحب المثنوي المعلقة الإلهية، بيان لفكرة وحدة الوجود التي قال بها عديد العشاق، أن نفس الحزن الذي في نغم الناي، إنما مرده شوق جارف للشجرة التي قطع منها، وأن نفس الحزن في النفس البشرية وانشدادها إلى التوحيد، إنما مرده حنين الفرع للأصل أيضا.

ومن مظاهر العشق الإلهي تدفق عشق البشر للبشر وحنوهم على بعضهم ورأفتهم بضعافهم وتكميدهم لجروح مرضاهم و أخذهم بيد عصاتهم و ضاليهم، فكلما ارتقى المرء سلم محبة الله، كلما ارتقى سلم محبة خلقه والتماس العذر لهم وصبره على أخطائهم وتجاوزاتهم وعدم المسارعة إلى الحكم عليهم، فهو مقلب القلوب، وكم من هاجر عاد إلى الحضرة الإلهية متألقا، فغفر له ما تقدم وتأخر من ذنبه.

الصوفية إنسانيو المذهب، اجتهدوا في تفسير القرءان وتأويله، وفي فهم أحاديث الرسول (ص) على نحو يتفق مع فهمهم لجوهر الدين الكامن في المحبة، ومن الأمر وقوفهم عند الآيات المحكمات، وتضييقهم على آيات الحكم والقتال لكونها عوارض في السيرة النبوية، كما تطرأ كل العوارض التي قد تترك أثرا جانبيا لكنها أبعد من أن تلمس الدرر المكنوزة و خبايا القلوب المليئة بالوجد والعقول المتألقة بالعرفان.

قد تصالح المتصوفة مبكرا مع الجمال و مظاهره، ومنها الفنون، التي عدت وسائل يرتقي بها المريد إلى مدارج العرفان، وآلات تسخر لتكسير الجدران المضللة والنفاذ إلى جواهر الأمور وإثبات الحجة والبيان. وولع الصوفية بالموسيقى والشعر والأدب وسائر نتائج الإبداع المرققة للقلوب و المهدئة للنفوس المرهقة، لا حد له.

يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، الذي انتهى بعد التيه إلى الصوفية، أن الإيمان نور قذف الله به في صدره، صدره هو لا صدر غير، وقد أسس الغزالي في رأيي لقاعدة أن الإيمان اجتهاد شخصي غير قابل للنسخ أو التصدير، وأن المؤمن الحق هو من عشق الذات الإلهية فأشفق على خلق الله، ولم تحدثه نفسه بغير المحبة، وأدرك أنه من الضعف بمكان، فيستنكف أن يدعو غيره أو يزعم هديه..فلا هادي إلا الله.

الصوفية اليوم يجاهدون أنفسهم، ويجهدونها ليكون الإسلام في خدمة الناس دينا ورسائل محبة إلهية، لا رسائل موت وقتل ودمار، وكأن الله عز وجل محتاج إلى سفك دم خلقه وتعذيبهم..حاشاه تعالى وتقدس اسمه، فله المشرق وله المغرب، والأرض شمالا والأرض جنوبا، تسجد بين يديه آمنة.. والقول للشاعر الألماني “قوته” عاشق النبي (ص).

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP