“رمضانيات”: يكتبها خالد شوكات:”المسلمون وسؤال التقدّم ”؟ /6 من 30/
خالد شوكات
كنت في صباي، وأنا في المدرسة الإعدادية بين (1980-1984)، شديد الإعجاب بسي محمد مزالي رحمه الله. كان لتوه قد اصبح رئيساً للوزراء بعد احداث قفصة ومرض سلفه المرحوم سي الهادي نويرة، وكان عالي الهمة شديد النشاط كثير التنقلات والخطب. كان يتحدث عن ضرورة الاصلاح السياسي، واهمية التصنيع، والتنمية الريفية، والعلاقات جنوب – جنوب ، والتوجه الافريقي، واستكمال الاستقلال، والتحرر الوطني، وتعميم استعمال اللغة الوطنية، وتعريب التعليم.. الخ.. لقد كان نموذجا للحكام العرب بالنسبة لي..
كان حاكما صاحب رؤية ومشروع اصلاحي يرغب في الإجابة عن سؤال “لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟”، على نحو عملي تطبيقي، لكنّهُ للاسف كان عاثر الحظ مثل سائر المصلحين الذين حاولوا الإجابة من قبلُ عن ذات السؤال المطروح على امتنا منذ ما يزيد عن القرنين..
مثل خير الدين باشا الذي لم يتركه الأذناب والعملاء والسفلة اكثر من ثلاث سنوات في الحكم كانت حافلة بالانجازات العظيمة، ومثل احمد بن صالح رائد التجربة التنموية التعاضدية في الستينيات الذي افلح المتآمرون في الايقاع بينه وبين الزعيم بورقيبة رحمه الله، وأوقفوا بذلك تجربة كان من شأنها ان تساعد بلادنا في تحقيق تحررها الوطني المطلوب. لما اتيحت لي فرصة العمل الى جانب سي الحبيب الصيد أشهرا قصيرة، وجدت لديه التوجهات نفسها تقريبا..
رغبة في الاصلاح، وفيّ اعادة اطلاق المشاريع الكبرى، وفيّ تبني التخطيط الاستراتيجي، ضمن رؤية وتوجه ديمقراطيين صادقين، لكن اهل الرداءة والغنيمة والمصالح الضيقة تحرّكت من خلال الدسائس والمؤمرات والوقيعة بين رئيسي الحكومة والجمهورية، لإيقاف التجربة ودفع البلاد مجددا الى سياسات الترقيع والتدبير اليومي المحدود للشأن العام، وتغليب العنصر الضحل فكريا وسياسيا والفاسد ماليا واخلاقيا على العنصر الملتزم برؤية اصلاحية والحامل لمشروع استراتيجي للوطن والامة.
ولا تعدم قوى الرداءة والغنيمة والفساد في الارض غالباً، الوسائل لتعطيل مشاريع الاصلاح والتقدم والنهوض الحضاري، فمعاناة القادة الإصلاحيين خلال القرنين الماضيين والى يوم الناس هذا تكاد تكون نفسها، من أهمها عدم امتلاك المصلح صلاحيات سياسية وقانونية كافية للمضي بمشروعه الاصلاحي، حيث توجد فوق المصلح عادة شخصية اعلى تمتلك الشرعية الأصلية وبمقدورها إنهاء التجربة متى ارادت.. الباي في حالة خير الدين، وبورقيبة في حالتي بن صالح ومزالي، والباجي في حالة الصيد..
ثم تأتي مجموعات الضغط ذات المصالح الضيقة او الرؤية المحدودة او السيرة الفاسدة التي تلعب دورها للتفتين بين رأسي السلطة التنفيذية حتى ينتهي الامر غالبا نهاية مأسوية، وفي ثنايا الأحداث يجري التلاعب بالرأي العام لتسويد صفحات المصلحين وقلب الحقائق وتبرير الجريمة.. ولست ادري لماذا تتكرر السيرة ذاتها على هذا النحو الغريب، حتى أدركنا هذا المستنقع الذي تدحرج اليه عقلنا السياسي اليوم.
ان اي متفحّص للقضايا المعروضة علينا حاليا، سيخلص دون عناء الى اننا بصدد مناقشة كل شيء الا القضايا والأمور التي تستحقّ نقاشنا.. ان الإجابة عن سؤال التقدم والتخلف لم تعد تعنينا، ولا عدنا مهتمين بتحديات العصر التقنية، ولا كيفية جعل بلدنا مصنّعا، ولا تحديد السبيل لاصلاح التعليم والصحة والتأمين والبنوك والصناديق الاجتماعية والتشغيل وسواها من الشؤون التي تهم الارتقاء بمستوى حياة المواطنين، ولا الاستفادة من التجارب المقارنة في التنمية والتقدم كالصين واليابان وماليزيا وكوريا الجنوبية وهونكونغ وتايوان وسنغافورة..
كل ذلك لا يهمنا او يعنينا او هو موجود على أجندتنا القريبة او البعيدة.. إنما ما اصبح يشغل الحيّز الأكبرْ من اهتمام نخبنا السياسية كيف نكيد لبعضنا ونضرب بعضنا وننتقم من بعضنا ونجرّح بعضنا ونعطّل بعضنا ونمعن في عداوة بعضنا.. احزاب طوائف، هرر تحاكي صولات الاسود، وانتصارات وهمية، وشعارات عدائية.. ومناخ يتعفّن كل يوم اكثر بالسباب والشتائم واتهامات التخوين والتكفير والشيطنة المتبادلة..
الأحزاب السياسية خلقت في الأصل للتنافس في انتاج البرامج والأفكار وتدريب الكوادر وتأهيل الحكام ذوي الخبرة والكفاءة، لكنها اليوم تشتغل بالمزايدات الفارغة في جميع العناصر التي يفترض بها ان تكون ضمانات وحدة وعمل مشترك راقية فحوّلها هؤلاء الى موادّ انقسام وصراع دنيئة.. أفبهذا السلوك سنجعل من ديمقراطيتنا الناشئة مقنعة، ونجيب عن سؤال لماذا تخلفنا وتقدّم غيرنا!
Comments