الجديد

“رمضانيات”: يكتبها خالد شوكات:” الإسلامي والمحافظ ” /7 من 30/

خالد شوكات

تشّكل المصطلحات والمفاهيم والتعريفات إحدى أهم مجالات الصراع السياسي والفكري والإعلامي الدائر في بلادنا، خصوصا منذ نجاح الثورة وانطلاق مسارنا للانتقال الديمقراطي. وفِي هذه المرحلة الانتقالية تحديدا، شديدة التعقيد والصعوبة، المتسمة بالتزامن مع أزمة أخلاقية مستفحلة، يصبح هذا الصراع أكثر تلوّثا، ويتحول تسخير المصطلحات والمفاهيم والتعريفات لخدمة أجندات كيدية وتآمرية مسألة يومية شائعة، وهو ما يقتضي من العقلاء الصد والتصحيح والتوضيح والتأكيد والمتابعة.

ومن حيث ينتقد البعض حركة النهضة ويتهمونها باحتكار الإسلام، يسلّمون لها ضمنيا بأن الحائز على الأصل التجاري للدين الإسلامي، عندما ينسبون كل شخص يخوض في المجال الديني إليها ظاهرا أو باطنا، ويعدّ هذا السلوك خطيرا في رأيي إن تمّ عن جهل وحسن نيّة، وأكثر خبثا وخطورة إن كانت النيّة مبيّتة.

إن الإسلام هو دين غالبية التونسيين، وحتى عند غير المسلمين من التونسيين ممن يدين بدين آخر أو يصنّف في خانة الملاحدة واللادينيين، يعدّ الإسلام جزءًا من هويتهم الثقافية ورافدا من روافد شخصيتهم الوطنية، ومن الطبيعي أن يحضر في خطابهم وسلوكهم ويؤثر في مختلف خياراتهم الحياتية بما في ذلك خياراتهم الفكرية والسياسية.

إنني من دعاة فصل وظيفي بين العمل السياسي عن الشأن الديني الصرف، وقد طالبت وما أزال منذ ربع قرن، في كتاباتي ومواقفي عبر وسائل الإعلام، بأن نجعل الإسلام مشتركا لا مفرّقا بين التونسيين، وأن لا نشتري بآيات الله ثمنا قليلا، ولكن ما يريده البعض منّا هو إقصاء شامل ماحق ساحق للإسلام عن الشأن العام، وهو توجه يذكرنا بعتاة العلمانيين من أتاتوركيين وستالينيين، ممن لا يَرَوْن حرجا في جعل الدولة في معركة مباشرة مع الدين،

ونظرة هؤلاء على وجه الدقة للإسلام هو تماهيه التام مع الإرهاب والعنف والخراب، وهي نظرة لا تجد صدى إلا عند عتاة النازيين والفاشيين الجدد في الغرب، كما هي نظرة خطيرة تماهي بين الإسلام والحركة الإسلامية، وتجعل كافة المتديّنين إسلاميين، وكافة الإسلاميين إرهابيين، وهي نظرة متطرفة جدّا، لا تناصرها إلاّ أوساط متشدّدة محدودة في الغرب. لقد انتصر نداء تونس على حركة النهضة في انتخابات 2014، وقد أجمع عدد كبير من المحللين، على أن أحد عوامل هذا الفوز الانتخابي على الخصم الاسلامي،

نظرة التونسيين للندائيين أو جزء منهم على الاقل، باعتبارهم محافظين مؤمنين يقدرون الإسلام كدين ارتضاه غالبية التونسيين، ولا يشكلون خطرا على هوية شعبنا الذي هو أحد روافدها، وهي نظرة تختلف عن تلك التي يرى من خلالها اليسار، وخصوصا اليسار المتجرّد من جلّ خصائصه الاجتماعية إلا موقفه السلبي من الدين والمعتقدات الدينية.

إنَّ الإسلامي مصطلحا ومفهوما، هو كل شخص له عضوية في حركة إسلامية تسعى إلى إقامة دولة دينية ذات نظام حكم إسلامي قوامه تطبيق الشريعة، وأنا لست إسلاميا، ولست عضوا في حركة إسلامية، ولو أردت أن أكون كذلك ما كان لشخص أن يمنعني، كما إنني لا أؤمن بأن في الإسلام نظرية للحكم بل مجرّد مبادئ عامة لا تتناقض مع الديمقراطية بل تعززها،

ولا أسعى إلى تطبيق الشريعة التي نظرت إليها كأي محافظ معتز بهويته الوطنية ومرجعيته الإصلاحية -وما أزال- باعتبارها تراثاً قانونيا للانسانية جمعاء، وطالبت باعتمادها كأحد مصادر التشريع من باب إشاعة وتعميم الشعور بالعزة الوطنية لدى قطاع واسع من التونسيين، فكيف لنا أن نعتبر القانون الروماني أو قانون نابليون المدني مصادر للتشريع بينما نستحي بحجة “الحداثوية” أو ” الحداثة المزوّرة” من منح الامتياز ذاته، ففي اليابان مثلا يعتز اليابانيون بشريعة الشنتو الكونفوشيوسية البوذية،

فِي بعض الولايات الأمريكية تشير القوانين إلى أن الإنجيل أحد مصادرها، وبالمقابل يحلم بعضهم بأن يجعل التونسيين يستحون بأن الإسلام هو دينهم ومقوّم من مقومات ذاتيتهم. لقد ساهم مشائخ الزيتونة المتديّنين المعمّمين في تأسيس الحركة الوطنية الإصلاحية عامة، والحزب الحر الدستوري خاصة، وكان الرئيس المؤسس الشيخ عبد العزيز الثعالبي زيتوني التكوين، بينما كان الشيخ الطاهر الحداد العالم الزيتوني مساعدا له وعضوا في اللجنة التنفيذية.

ولم يتخلّى بورقيبة طيلة مساره السياسي قبل الاستقلال وبعده عن الخطاب الديني، وكان كثير الاستشهاد بالآيات القرآنية، وقد قال باحثون كثرٌ أن جميع الإجراءات الاصلاحية التي أقدم عليها الزعيم الخالد كانت مسنودة بفتوى من علماء الدين، فهل لأحدهم أن يقول اليوم بأن بورقيبة كان إسلاميا. وخلاصة القول،

إن الفرق واضح وجلّي بين المحافظ الديمقراطي الذي يُؤْمِن بأن الإسلام ناهيك عن كونه دين غالبية التونسيين، فهو أحد ركائز هويتنا الوطنية المتميزة كما أسلفت، وهو تراث ثقافي وحضاري أسهم في تشكيل شخصيتنا، وهو منبع ثقافي وحضاري لأصالتنا التي بدونها تصبح معاصرتنا مسخًا بلا معنى، والذي يرى في التمسك بقيمنا الدينية والقومية مساهمة في تأثيث ركن في بيت الإنسانية، وبين الإسلامي الذي يعمل على إقامة دولة ذات حكم إسلامي يعتمد الشريعة مصدرا وحيدا للتشريع.

إنني أنظر أيضا إلى حزب الحركة الوطنية التونسية باعتباره حزبًا ديمقراطيا محافظاً، محافظته تكمن في سعيه إلى الحفاظ على الهوية الوطنية وتراث الحركة الوطنية والإصلاحية الممتدة على ما يقارب القرنين، وديمقراطيته مردها الدور الذي ما فتئ يلعبه من أجل تثبيت عرى النظام الديمقراطي الجديد.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP