“رمضانيات” يكتبها: خالد شوكات: “محمد مزالي .. المشروع الحضاري في بعده العربي الاسلامي”/10 من 30/
خالد شوكات
-1-
ولد محمد مزالي يوم 23 ديسمبر 1925 بمدينة المنستير، وبها زاول تعليمه الابتدائي قبل ان ينتقل الى تونس العاصمة، وتحديداً الى المدرسة الصادقية التي تخرّج منها جل قادة الدولة الوطنية المستقلة، أين سيتمّ تعليمه الثانوي وينتقل بعدها إلى جامعة السربون حيث سينال الإجازة في الفلسفة، ويلتقي رفيقة دربه الاستاذة فتحية المختار مزالي، التي ستواصل معه رحلة الحياة، وتواجه معه تقلّبات الزمان، وتشاركه أطوار الصعود والنزول، وتتذوّق معه حلاوة النجاح ومرارة المنفى، وتعيش معه تجارب تسلّق السلطة إلى أعلى درجاتها، وتعايش معه أزمات التهاوي والمنفى والانكسار إلى أن التحق بالرفيق الأعلى يوم 23 جوان 2010، أي قبيل نجاح الثورة التونسية في 14 جانفي 2011، وهو الذي طالما حلم بتونس ديمقراطية وسعى في سبيل ذلك ما استطاع.
-2-
يعدّ محمد مزالي من طينة فريدة من رجال الفكر والدولة، ليس فقط في بلده، بل في شتّى اصقاع الدنيا، فهو الذي جمع طيلة ثلاثة عقود متواصلة (1956-1986)، بين وظيفتين تبدوان متنافرتين هما الوزارة وإدارته لمجلّة الفكر الدورية الشهرية التي لم تنقطع عن الصدور منذ انطلاقتها سنة 1955 إلى غاية 1986 عندما اضطرت مؤامرات السلطة صاحبها إلى الفرار عبر الحدود الجزائرية في ثوب راعي أغنام بعد صدور الأوامر الرئاسية بملاحقته وإعدامه.
شَغَلَ محمد مزالي طيلة عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين عديد الوظائف العليا في الدولة، من بينها ادارة الاذاعة والتلفزيون ووزارات الشباب والرياضة والصحة والتربية والتعليم، قبل أن يعتلي سدة الحكم الى جانب الزعيم الحبيب بورقيبة الذي نصّبه على رأس الوزارة الاولى مكان رجل الاقتصاد الهادي نويرة، وذلك اثر احداث قفصة التي جدّت في شهر جانفي 1980.
ساهم محمد مزالي قبل وصوله الى القصبة، كمسؤول سامٍ ووزير، في تحقيق عديد المنجزات الحضارية لبلاده، لعل من أهمها تأسيسه للتلفزيون التونسي والمدينة الرياضية الأولمبية بالمنزه، اذ كان من رجال الدولة الذين يتركون أثرًا ملموساً للاجيال القادمة في كل موقع يمرون به، دون ان ننسى تأسيسه لاتحاد الكتاب التونسيين باعتباره أديبا ومثقفا وكاتبا غزير الانتاج، لم ينقطع عن ممارسة الكتابة حتى وهو في عزّ الانشغال بالسلطة ومواجهة مخاطر السياسة ومطبّاتها.
-4-
يلتقي تلامذة محمد مزالي وأحبّاؤه مع خصومه في القول بأنه لم يكن حاكما عاديا مارس السلطة من اجل السلطة، بل كان الحاكم الذي اعتلى منصّة الحكم وهو يحمل في عقله وقلبه ” مشروعاً حضاريا وطنيا”، مرجعيته مرتبطة بتراث الحركة الوطنية الاصلاحية التونسية وأهدافها المعلنة، خصوصا خلال الحقبة الاستعمارية، فقد طرح مزالي قولا وفعلا، خطابةً وممارسةً، هذا المشروع على أبناء شعبه وأمته، على مرِّ ثلاثين عاما، لكن القدر ومكر التاريخ حَالاَ دون استكماله للمشروع، محمّلا رفاقه والمؤمنين بحركته أمانة الإبقاء على جذوته حيّة، والعمل ما وسعتهم القدرة على إنجاز ما تبقّى من فصوله.
-5-
لقد آمن محمد مزالي بهوية بلاده العربية الاسلامية، وعشق لغته الوطنية وسعى إلى أن يعزّها بتعميم استعمالها وتنشئة الأجيال على حبّها، كما بذل كل جهوده من اجل ربط بلاده بشقيقاتها في المجال المغاربي والعربي والإسلامي، وتجرّأ على القوى الاستعمارية المهيمنة بدعوة أمم الجنوب إلى التعاون فيما بينها، وسلك خطوات في سبيل تحرير الاقتصاد الوطني من ربقة التبعية، ومنح الثقافة والرياضة والأدب رعاية خاصة كجزء أساسي من منظومة التربية المدنية العامة، وكان على الرغم من صعوبات المرحلة التي جاء فيها إلى الحكم، معتصما ما أمكن بحبل الاصلاح والديمقراطية، صابرا على سوء الفهم وانحطاط الاخلاق، داعيا إلى أن ترفع الأمة رأسها وأن لا تستسلم للهيمنة الأجنبية وان تقف إلى جانب القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وان تواصل الحلم بِغَدٍ تستعيد فيه مكانتها كمنارة للعلم والحضارة.
Comments