الجديد

سبر الأراء: التلاعب بالعقول و”كذبة” الرأي العام

هشام الحاجي

يمكن القول أن الديمقراطية تقوم أساسا على الأرقام و على الاهتمام بالجوانب الكمية لأن علاقة الأحزاب السياسية و السياسيين بالسلطة تقوم على الإنتخابات و ما يفترض أن يتوفر فيها من شفافية حتى لا يقع التلاعب بالأصوات المصرح بها.

و أهمية قياس الأصوات هي التي فرضت اللجوء إلى عمليات سبر الآراء و قياس المواقف و التوجهات و التي تحولت في كل التجارب الديمقراطية إلى مجال تساؤل و تقييم مختلف خاصة بعد أن أبرزت الأدبيات الناقدة للنظم الديمقراطية أن الشفافية الظاهرة لهذه النظم تخفي ما لم يغب عن كل الأنظمة السياسية من علاقات و رغبات توجيه و هيمنة و من تلاعب بالعقول و بالمشاعر .

كذبة الراي العام

و إذا كان العقل التآمري الكسول لا ينظر لعمليات سبر الآراء و لكل ما لا ينسجم مع منطق سرير بروكست الذي يريد أن يتعامل من خلاله مع العالم إلا تنفيذا لمخططات تهدف لضرب ” قوى الثورة ” فإن العقل العلمي قد أشار منذ عقود و من خلال عدة بحوث علمية لعل من أهمها تلك التي تولى القيام بها عالم الإجتماع الفرنسي ” بيار بورديو ” إلى أنه ” لا يوجد رأي عام ” و التي أبرزت أن الآراء و المواقف ليست ” تلقائية ” أو “حرة “.

كما يعتقد بل تخضع لعمليات بناء و تركيب و ” تمويه ” معقدة ليست عمليات سبر الآراء في أحد جوانبها إلا أداة من أدوات هذه العمليات و هو ما كان وراء تسييجها بمنظومات قانونية تهدف إلى السعي نحو شفافيتها و نحو تنظيمها و هو ما لا يتوفر لحد الآن في بلادنا التي لم تنجح في حماية ” الانتقال الديمقراطي ” الذي يكاد يتحول إلى شعار مفرغ من المحتوى بمؤسسات و قوانين تكرس فاعليته و تحميه من الانزلاق.

لكن ما سبق من ملاحظات لا يعني ” الاستخفاف” بعمليات سبر الآراء أو ” تضخيمها ” لأنها تعطي فكرة في لحظة معينة عن جانب من توجهات المتابعين للعملية السياسية و هذه التوجهات قد تستمر كما أنها قابلة للتغير نتيجة أداء الفاعلين السياسيين أو لما ” يميز ” الشخصية القاعدية التونسية من نزوع إلى عدم الإستقرار و من تقلب المواقف.

سوق سبر الأراء

يكفي التذكير بالشخصيات التي كانت تتصدر منذ أسابيع ” سوق سبر الآراء ” الخاضع لمنطق العرض و الطلب السياسي و الإيديولوجي و التي أصبحت حاليا نسيا منسيا للتأكد من ذلك.

و من هذا المنطلق يمكن قراءة أهم دلالات النتائج التي أتت بها عملية سبر الآراء الشهرية التي تقوم بها مؤسسة ” سيغما كونساي ” بالاشتراك مع جريدة ” المغرب ” و التي ما انفكت تثير منذ صدورها في اليومين الأخيرين  عدة ردود فعل و ذلك نظرا لما تضمنته من نتائج ” صادمة ” و لتزامنها و تساوقها مع مخاض تشكيل الحكومة الجديدة و التي يسعى المكلف بها هشام المشيشي لاستبعاد الأحزاب منها.

يمكن القول أن نتائج عملية سبر الآراء تمثل كما أشار البعض ” زلزالا سياسيا ” إذ تحصل الحزب الدستوري الحر على المرتبة الأولى في نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية بأكثر من ثلث الأصوات مزيحا حركة النهضة من المرتبة الأولى و متقدما عليها بفارق هام لا يقل عن خمسة عشر نقطة. وهذا التقدم اللافت و الذي تحقق في أقل من شهر مقارنة بعملية سبر الآراء السابقة يعكس شيئا من “تذبذب” المزاج لدي الرأي العام السياسي في تونس و عدم خضوعه للمنطق و للتوقع العقلاني .

و لكنه يعيد إلى الأذهان الأشهر التي سبقت الإنتخابات التشريعية و الرئاسية لسنة 2014 و التي شهدت حركة نداء تونس تتصدر عمليات سبر الآراء. و هناك نقاط التقاء و نقاط إختلاف بين اللحظتين.

فمن نقاط الالتقاء أن رد فعل قيادات حركة النهضة لم يتغير كثيرا رغم مرور ست سنوات حافلة بالأحداث و المستجدات إذ ظلت ميالة إلى التشكيك الأخلاقي في القائمين بعمليات سبر الآراء و في وسم الأحزاب التي تتقدم عليها في سبر الآراء بأنها تمثل ” الثورة المضادة ” و “النظام السابق ” و غيرها من المصطلحات التي لم تعد تقنع كثيرا خاصة و أن منجز السنوات الأخيرة كان ضعيفا و سلبيا في أغلب المجالات و هو ما يفترض أن تدركه حركة النهضة و أن تسارع إلى القيام بعملية نقد ذاتي شجاعة لتعدل اوتارها و لتوقف التاكل الواضح في خزانها الإنتخابي.

المزاج العام .. غير ثوري .. وشعبوي

ان الصعود المتزامن للحزب الدستوري الحر في نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية و لقيس سعيد في نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية يضع على المحك سردية ” الثورة التونسية ” و يزيد في إضعافها.

ذلك أن الحزب الدستوري الحر و قيس سعيد ينحدران من افقين مختلفين سياسيا و لكن ما يجمع بينهما هو أنهما لم يشاركا بأي شكل من الأشكال في التحركات و ” التحالفات ” التي سبقت 14 جانفي 2011 و سعت لإسقاط النظام السابق و لهما أيضا و بدرجات مختلفة تحفظات حول النظام السياسي الذي تشكل بعد 14 جانفي 2011 و حتى و إن اختلفت الأسباب و تباينت فإن كلاهما يريد إعادة بناء هذا النظام و هما أشبه بحصان طروادة إذ ” تسللا ” إلى لعبة لا يؤمنان كثيرا باسسها و ضوابطها لكنهما استفادا منها سياسيا دون أن يتنازلا عن هدف تفكيكها و ” نسفها ” من الداخل.

يبدو واضحا أن سردية الثورة لم تعد تجد قبولا لدى قطاعات واسعه من الرأي العام و أن الأحزاب التي تبنت هذه السردية ليست في أفضل حالاتها إذ تكاد تغيب عن الصفوف الأولى للمشهد السياسي و حتى حركة النهضة فإنها في تراجع لافت.

و لا شك أن التقدم الكبير لقيس سعيد في نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية قد يكون مرتبطا بمواقفه الأخيرة من الأحزاب السياسية التي خلقت حالة من المزاج الشعبي المعارض لها لانها لم تقدم أمرا ذي بال للمواطنين .

كما أن تقدمه يطرح أسئلة عديدة لعل من أهمها معرفة الانعكاسات الممكنة لاقدامه على تأسيس أو ” رعاية ” حركة سياسية على المشهد السياسي.

و من النتائج اللافتة لعملية سبر الآراء التي نشرتها صحيفة المغرب مؤخرا  وجود فجوة لافتة في نوايا التصويت بين الحزب الدستوري الحر في الإنتخابات التشريعية و رئيسته عبير موسي في الإنتخابات الرئاسية إذ يتقدم الحزب بشكل كبير على ” زعيمته ” على خلاف ما كان عليه الأمر سنة 2014 في علاقة الباجي قائد السبسي  و نداء تونس  إذ كان ” البجبوج” القاطرة التي قادت الحركة إلى صدارة المشهد السياسي.

يبدو أن بعض النفخ المبالغ فيه في صورة عبير موسي و بعض اساليبها ” الاستفزازية ” إلى جانب رواسب مخزون ثقافة ذكورية ترفض أن تكون المرأة رئيسة للجمهورية قد تكون عوامل تحد من تقدم عبير موسي و من طموحها للقيادة و الزعامة.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP