سدّ النهضة .. قنبلة صامتة في القرن الإفريقي
محمد بشير ساسي
كثيرا ما روّج في إثيوبيا منذ البدء في بناء سد النهضة عام 2011، بأنّ المشروع القومي الذي أجمع عليه الشعب الإثيوبي والذي يحظى بدعم دولي واسع، لن تستخدمه أديس أبابا كورقة ضغط أو ابتزاز ضدّ مصر والسودان المتوجّستين من تأثّر حصّتيهما المائية من مياه النيل..
غير أن المتتبّع لمسار مفاوضات تخلّلته عدة نكسات وانقطاعات على مدار عقد من الزمن، يرصد انفلات قضية السدّ من “عقالها الثلاثي”، لتتبنّاها في ما بعد وساطات إقليمية ودولية أُختزلت بأجماع المراقبين في بيانات واتفاقيات “غير مُلزمة” ولا رادعة ضدّ كلّ طرف يتجرّأ على الانسلاخ والتمرّد ضدّ تلك المرجعيّات.
وفي ظلّ هذه الأجواء المشحونة بالاستقطاب المتزايد، توسّعت دائرة الخلافات بين ثلاثي الأزمة، خصوصا بعد تصعيد الطرف الإثيوبي الأمور على مستوى التصريحات السياسية الرسمية بإعلان رئيس الوزراء أبي أحمد المضي لتطبيق “المرحلة الأولى” من ملىء خزان سد النهضة بحوالي 18.4 مليار متر مكعب من المياه على مدى عامين دون الاتفاق المسبق مع مصر والسّودان بالإضافة إلى عدم الاعتراف بالحقوق التاريخية لمصر في مياه نهر النيل كما جاء في التصريحات الاستفزازية لوزير المياه والري والطاقة سيليشي بيكيلي..
التعنّت الأثيوبي لم ينحصر في مستوى قيادات الطبقة السياسية التي أرجأت خلافات حول الانتخابات العامة، لتقف على قلب “رجل واحد” تحت شعار “سدّنا رمز الوحدة والسيادة”، بل ترجمته أديس أبابا على أرض الواقع بتسريع بناء مشروع يُنظرُ إليه كمسألة “حياة أو موت” لكون سدّ “الألفية العظيم” كما يطلق عليه والذي تبلغ كلفته حوالي 4.5 مليارات دولار، سيصبح أكبر مصدر للطاقة الكهرومائيّة في إفريقيا والعاشر من نوعه عالميا بطاقة استيعابية قصوى تصل إلى حدود 74 مليار متر مكعب.
ومع كشف مصادر من داخل الغرف الإثيوبية المغلقة عن إنجاز 74 % من البناء وانخراط وزارة المياه والطاقة في تنفيذ مشروعات تكميلية عدة، للاستفادة من الطاقة التي يولدها السدّ تجريبياً بحلول الربيع المقبل، يؤكد محلّلون أن قاعدة الثقة بين أطراف الأزمة تلاشت كليّا، وأصبحت هناك قناعة راسخة لدى الجانب المصري بدرجة أولى والسوداني أيضا بأن إثيوبيا تعمّدت إهدار الوقت والخروج بصفة أحادية عن سياق الالتزام بالتفاهمات الضامنة لاستقرار المنطقة وتحديدا منذ انسحابها من الجولة الختامية لمفاوضات واشنطن نهاية فبراير/شباط الماضي برعاية وزارة الخزانة الأميركية والبنك الدولي منذ 6 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وهي المفاوضات التي كان مقررًا لها أن تفضي إلى اتفاق نهائي يحل المسائل العالقة بشأن قواعد ملىء وتشغيل سد النهضة.
وبالتزامن مع إصرار الجانب الإثيوبي على الحديث بلغة التصعيد، وعدم إبداء النية في التّناغم مع المطالب الدولية والإقليمية بتحكيم العقل وتفعيل المفاوضات الفنية المتعثرة والتي تتم عبر الخرطوم، ظلّ الجانب المصري المتوجّس من انخفاض حصته المائية البالغة حاليا 55 مليار متر مكعب سنويا من المياه بكميّة تترواح ما بين 5 إلى 15 مليار متر مكعب، ظلّ يراهنُ على فرضية عدول الطّرف الاثيوبي عن رعونته في تهديد الأمن القومي لمصر التي تمثّل لها حياة نهر النيل مسألة وجودية غيرُ قابلة للتهديد والإبتزاز.
في مساعيها لكبح جماح إثيوبيا تحرّكت الديبلوماسية المصرية لشرح موقفها من أزمة سد النهضة ومن الجمود الحاصل في المفاوضات، حيث خاطبت مجلس الأمن لتقيم الحجّة ضد الطرف الإثيوبي الذي أدار ظهره لمواقف القاهرة المرنة والمُتسقة مع قواعد القانون الدولي، كما شملت التحركات التنسيق مع عدة دول إفريقية منها جنوب السودان، جنوب إفريقيا، تنزانيا، روندا، النيجر والكونغو الديمواقراطية، بالإضافة إلى قيام وزير الخارجية المصري سامح شكري بزيارة عدد من الدول العربية والأوروبية من أجل دعم بلاده في جهودها لدفع إثيوبيا للتوقيع على اتفاق ملىء وتشغيل سد النهضة حفاظا على الأمن والاستقرار بمنطقة القرن الإفريقي.
وحتى لا يُقرأ بقاء الجانب المصري في دائرة التريّث في الرد المناسب والقوي إزاء إنكار إثيوبيا للإتفاقيات ورفضها لما وصفته بالمعالجات الاستعمارية والإرث الذي ينكر حقوقها في تنمية مواردها المائية على نهر النيل، على أنّه فشل ذريع في إدارة ملف يمكن أن يصل إلى حدّ “الخطيئة” منذ توقيع القاهرة اتفاق مبادئ في مارس/ آذار 2015 بالخرطوم، فإن الرئيس عبد الفتاح السيسي وفق مراقبين، بات مطالبا سياسيا ودبلوماسيا وشعبيا بالظهور في صورة “زعيم يليق بمصر، يرفض أي مساومة على الحقوق القانونية والتاريخية في مياه النيل.
ولكي لا تتأخر كثيرا في منع خطط العبث بأمنها القومي والرضوخ لسياسة الأمر الواقع التي فرضتها اثيوبيا، دخلت مصر في مرحلة توظيف كلّ قواعد اللعبة من أجل المصلحة العليا لموقعها الإقليمي، حيث يُعتقدُ على نطاق استراتيجي واسع بأن الانحراف الإثيوبي عن مسار الاتفاقيات، منح المواقف المصرية السودانية فرصة التقارب أكثر من ذي قبل زمن الرئيس السوداني السابق عمر البشير المتهمُ بالتواطؤ مع إثيوبيا ضد مصر، لتتعالى الأصوات في كلا البلدين مطالبة بالاتفاق حول رؤية واحدة فيما يتعلق بالملىء والتشغيل وحتى إدارة السد من باب الحفاظ على الحقوق التاريخية للجارتين في نهر النيل.
كما لم تخف القاهرة نواياها العسكرية في حال استيفاء كل الحلول _ وإن كان الخيار العسكري مستبعدا _ بعد كشف تقارير استخباراتية عن موافقة حكومة جوبا على طلب القاهرة إنشاء قاعدة عسكرية في مدينة (باجاك) قرب حدود جنوب السودان مع إثيوبيا في رسالة واضحة مفادها أن كل الاحتمالات قابلة للتنفيذ خاصة مع دخول بناء سد النهضة في مراحله الأخيرة. كلّ المؤشرات الآن توحي بأنّ أزمة سدّ النّهضة زرعت في تربة القرن الإفريقي “قنبلة صامتة” يبدو أنها ستعيد المنطقة من جديد إلى خندق التوترات والاعتداءات سواء بين الدول أو المليشيات شبه النظامية التي تتحرك وفق أجندات تخريبية كشف لنا التاريخ أنّها بمثابة السمّ المدسوس لقتل كلّ مبادرات السّلم والأمن القومي.
Comments