سيناريوهات الوضع الاقتصادي التونسي .. إما أن نعلن إفلاسنا أو أن يُفرض علينا إعلان إفلاسنا !
عماد بن عبد الله السديري*
لا توجد مؤسسة مالية دولية لم تؤكد على استمرار تدهور الوضع الاقتصادي في تونس. فالثابت بحسب جميع التقارير الدولية التي اهتمت بالشأن الاقتصادي التونسي أن جميع المؤشرات الاقتصادية الأساسية سلبية و تتخطى دوما جميع الخطوط الحمراء.
بل الأخطر من كل هذا أن الأداء الاقتصادي التونسي قد كان خلال السنوات الأخيرة أكثر كارثية من التحاليل والتوقعات الكارثية التي أوردتها المؤسسات المالية الدولية ذات الخبرات المتقدمة جدا في مجال التحليل والاستشراف الاقتصادي.
يوم 8 جويلية 2021، أي منذ أيام قليلة، أكدت وكالة فيتش للتصنيف الائتمانية أن تونس قد تجاوزت الخط الأحمر الخاص بنسبة العجز في ميزانية الدولة مقارنة بحجم الناتج المحلي الإجمالي.
إذ من المتوقع أن تحقق تونس هذا العام نسبة عجز تقدر بــ8.9% في حين أنها لا ينبغي أن تتجاوز عتبة 6.2% كحد أقصى.
كما تتوقع ذات الوكالة أن تبلغ نسبة الدين العمومي 89% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2021 على أن تستمر هذه النسبة في الارتفاع إلى حدود 93% في العام 2023.
بحسب تقديرات ذات المؤسسة، فإنه يُفترض ألا تتجاوز هذه النسبة 70% كحد أقصى في وضع الدول المصنفة مثل تونس. بالإضافة إلى حجم العجز في الميزانية وفي الدين العمومي مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي.
و يتوقع كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووكالة موديز للتصنيف الإئتماني والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية ووكالة فيتش للتصنيف الإتماني أن تبقى نسب النمو السنوي في بلادنا ضعيفة ومتدنية خلال هذا العام والأعوام القادمة.
على سبيل المثال، بحسب وكالة فيتش للتصنيف الإتماني، فإنه من المتوقع أن تحقق بلادنا نسبة نمو تناهز 3.4% لا غير خلال هذا العام، وهي نسبة أقل من الحد الأدنى المقدّر بــ 4.2% الذي ينبغي أن تحققه دول مصنفة في المستوى الإئتماني “ب” مثل تونس.
في الحقيقة، عبّرت بعض المؤسسات المالية الدولية الأخرى عن توقعات أسوأ بشأن نسب النمو المحتملة في تونس خلال هذا العام والأعوام القادمة.
فمنذ أيام قليلة توقع البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية ألا تتجاوز نسبة النمو في تونس خلال هذا العام 2.7% لا غير، وهي نسبة ضعيفة جدا مقارنة بالسقوط المدوي وغير المسبوق الذي شهده الاقتصاد التونسي بحوالي 8.8% تحت الصفر خلال العام 2020.
كما إن معظم المؤسسات المالية الدولية تتوقع ألا تتجاوز نسب النمو أكثر من 3% في أفضل الظروف خلال السنوات المقبلة، بل بحسب صندوق الدولي قد تصل هذه النسبة إلى 1.8% في العام 2026 إذا لم تنفذ بلادنا الإصلاحات اللازمة.
هذا الأداء التنموي الضعيف جدا (والصادم جدا كذلك) سيؤدي قطعا إلى مزيد تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي خلال الفترة القادمة، خاصة بعد الفشل الجلي في التعامل مع جائحة كوفيد 19 والحد من آثارها السلبية.
فبحسب ما نشرته وكالة رويترز منذ أيام قليلة فإن عدد التونسيين الذين تلقوا الجرعتين الأولى والثانية من التلاقيح قد بلغ حوالي 750 ألف مواطن ومواطنة لا غير من بين أكثر من 11 مليون نسمة، وهو عامل آخر سيحدد بكل تأكيد حجم الأزمة الاقتصادية التونسية وتداعياتها المختلفة على المشهدين السياسي والاجتماعي.
والمؤكد في هذا الصدد أن الوضع الاجتماعي في تونس مرشح لمزيد من الانهيار والتوتر في ظل الارتفاع المستمر في نسبة البطالة بين الشباب إلى 40.8%، وهي من بين النسب الأعلى في العالم، وارتفاع نسب الفقر إلى أكثر من 20% بحسب البنك الدولي.
كما إن المؤشرات الخاصة بالإنتاجية والثروة، الفردية أو الوطنية، تؤكد تراجع قدرة التونسييين والتونسيات على العمل وتحسين ظروفهم المعيشية، حيث تراجع نصیب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 3300 دولار أمریكي في العام 2020 بعد أن تجاوز 4000 دولار أمريكي منذ حوالي 15 سنة.
مع تراجع نصيب نصیب الفرد من الدخل القومي الإجمالي إلى حوالي 3180 دولار أمریكي في العام 2020، بعد أن تجاوز بدوره عتبة 4000 دولار أمريكي منذ حوالي 15 سنة.
هذا الانهيار المستمر في المؤشرات الاقتصادية الأساسية كانت وستكون له حتما تداعيات سلبية كبيرة على الشعب التونسي. وهو ما أكدته دراسة ألمانية تم نشرها منذ أيام قليلة، حيث وثقت أن 40 بالمائة على الأقل من سكان تونس الكبرى، والبالغ عددهم 2.6 مليون نسمة، لا يمتلكون الموارد المالية الضرورية لتحقيق العيش الكريم.
وبطبيعة الحال، إن كان سكان تونس العاصمة معرضون لمثل هذه التحديات، فإن سكان المناطق الداخلية سيواجهون لا محالة صعوبات أكبر وأوسع نطاقا.
اذن فبلادنا، شئنا أم أبينا، مقبلة على مرحلة حاسمة من تاريخها. والتحديات الاقتصادية والاجتماعية هي التي ستحدد ردود الفعل ونتائجها. ففي ظل غياب الإصلاحات الجادة والعميقة، فإن المؤسسات المالية المانحة قد تطالب تونس بضرورة إعادة جدولة ديونها قبل الحصول على أي دعم مالي إضافي. وهو خيار خطير قد أشارت إليه وكالة فيتش للتصنيف الإئتماني في تقريرها منذ أيام قليلة.
وبطبيعة الحال، فإن أي طلب لإعادة جدولة الديون سيعني آليا إفلاس الدولة التونسية بسبب عدم إيفائها بتعهداتها فيما يخص تسديد الأقساط المستحقة من القروض السابقة في مواعيدها.
الخطير في الوضع الاقتصادي التونسي الحالي أن كبرى المؤسسات المالية الدولية لا تتوقع أي انفراج ذي قيمة في الفترة القادمة. وهو ما أكده صندوق النقد الدولي في تقريره التقييمي الأخير بشأن الوضع الاقتصادي في تونس في شهر أفريل 2021 .
كما إن وكالتي التصنيف الإئتماني موديز وفيتش قد أشارتا، في آخر تقييماتهما، إلى إمكانية أن تسوء الأوضاع المالية في بلادنا في أي لحظة بسبب هشاشة المشهدين السياسي والاجتماعي واحتمال حدوث انزلاقات مفاجئة ستزيد بشكل مؤكد في حجم الضغوطات المالية المسلطة على بلادنا.
وعليه، لم تكتف وكالتي التصنيف الإئتماني موديز وفيتش بخفض الترقيم السيادي لتونس فحسب، بل أكدتا على الآفاق السلبية التي ستميز الأداء الاقتصادي والمالي في تونس خلال الفترة القادمة. وهو ما يعني إمكانية إعادة خفض الترقيم الإئتماني (السيادي) لتونس واقترابها بشكل غير مسبوق من عتبة الإفلاس.
في الحقيقة، لا تختلف المؤسسات المالية الدولية في تقييمها للوضع الاقتصادي التونسي عما نردده بشكل مستمر في تونس، إذ من اليسير أن نلحظ وأن نوثق تراجعا خطيرا في الأداء الاقتصادي التونسي من خلال التعمق في تحليل بعض المؤشرات الاقتصادية الكلية الأساسية.
كما إننا لا نختلف في تحديد الأسباب التي أنهكت الاقتصاد التونسي و”سحقته” عمليا خلال السنوات الماضية. فالبنك الدولي (2021) وصندوق النقد الدولي (2021) ووكالة موديز للتصنيف الإئتماني (2021) والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (2021) ووكالة فيتش للتصنيف الإئتماني (2021) ومؤسسة هيريتدج في الولايات المتحدة الأمريكية (2021) تؤكد جميعها أن الحكومة التونسية لم تطرح ولم تنفذ الإصلاحات الضرورية للخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية، بما في ذلك على نحو خاص المعالجة الجادة والصارمة للمشاكل المرتبطة بسوء التصرف الموثق في الشركات المملوكة للدولة والفساد.
هذا الإخفاق في اعتماد وتنفيذ الإصلاحات الضرورية يعود بحسب وكالة فيتش للتصنيف الإئتماني إلى عاملين أساسيين: تشرذم المشهد السياسي التونسي وقوة المعارضة الاجتماعية التي ترفض الكثير من المقترحات الإصلاحية. وبطبيعة الحال، فإن هذا الوضع المعقد قد أدى وسيؤدي، بحسب ذات الوكالة، إلى عرقلة أي فرص لحصول بلادنا على التمويلات الخارجية اللازمة للخروج من المأزق المالي الحالي، وهو مأزق قد تفاقم ولا يزال يتفاقم بسبب التخبط الذي رافق التعامل مع جائحة كوفيد 19 في بلادنا، كما تم تبيانه آنفا. عمليا، نحن مقبلون على مرحلة مصيرية خلال هذا العام والأعوام القادمة.
هذه المرحلة سيتحدد جزء هام منها في تونس وجزء آخر منها، ربما أكثر أهمية، خارج تونس.
إن استشراف هذه المرحلة بحسب المؤشرات الحالية يحيلنا إلى ثلاثة سيناريوهات مستقبلية لا غير:
إما أن نحل مشاكلنا بأنفسنا، وهو أمر مستبعد جدا في ظل التعنّت السياسي والاجتماعي الحالي وفي ظل تفاقم الأوضاع المعيشية في جميع مناطق البلاد
أو أن نعلن إفلاسنا من خلال طلب إعادة جدولة ديوننا
أو أن يفرض علينا إعلان إفلاسنا
والسيناريوهان الأخيران واردان بشكل كبير، بسبب الارتفاع غير المسبوق في معدلات التداين الخارجي والانهيار غير المسبوق كذلك في معدلات العمل والإنتاج والتصدير والاستثمار .
هذا، حقيقةً، ما ينبغي أن ندركه في تونس بحسب المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحالية. وقد أعذر من أنذر.
Comments