سينما الجيب (Cinéma de poche): أو الفن الذي سقط سريعا
أحمد القاسمي
سينما الجيب الاصطلاح الجديد وافد على ساحة النقد السينمائي يخصّ تلك الفيديوهات التي يتم تصويرها من قبل الشباب الهواة غالبا بالحوامل الرقميّة البسيطة المتاحة لهم كالهواتف الجوّالة أو المصورات الرقميّة بغاية توثيق لحظة حميمة. فسريعا ما أضحت هذه السينما تغزو الفضائيات وتدير إليها رقاب ملايين الجماهير في كامل أنحاء المعمورة بما ترصد من حراك الشارع الثائر وفرضت على النقد تصنيفها ضمن الأفلام الوثائقيّة.
ويعود ظهورها إلى انتشار مواقع التواصل الاجتماعي. فقد دفعت بالفيديوهات الوثائقية إلى نمط من التقبّل التفاعلي فواكبت الثورات السياسيّة وعمل “المتفرّجون” على تبادلها والتعليق عليها والتّدخل فيها أحيانا أخرى بزيادة مشاهد أو الحذف أخرى فتجاوزت وظيفتها الإخباريّة إلى التعبير عن الرأي وإبداء الموقف النقدي من الفيلم نفسه. واكتسبت هذه الفيديوهات شرعيّة الانتماء إلى السينما الوثائقية من قدرتها الفائقة على توثيق الحقيقة وعلى استباق الحدث بحيث تكون في اللحظة وفي المكان المناسبين لترصد اندلاع احتجاج في إقليم من الأقاليم أو سقوط متظاهر إثر طلق ناري أو دوسا تحت عجلات سيارة قوات أمن ترعب بدل أن تؤمّن.
وما أكسب هذا الانتماء إلى الوثائقي شرعيّته أيضا اشتمال هذه الأفلام على خصائص فنيّة مميّزة. إذ تتم دون إعداد مسبق أو سيناريوهات جاهزة ما قبليّا وفق بناء نمطيّ مما يمنحها قدرا كبيرا من العفويّة والتلقائيّة ويدرجها ضمن نمط السينما المباشرة التي تسعى إلى التقاط وجوه من الحقيقة متجاهلة وجود الكاميرا بغاية تحقيق عرض يضمن قدرا وافرا من واقعيّة الأحداث وتلقائيتها. وغالبا ما تصاحَب هذه الأفلام بصوت من خارج الإطار ليشرح المشهد أو يعلّق عليه حتى ينزّله ضمن سياقه الاجتماعي والتاريخي وظروف تصويره. ولما كانت تلتقط بواسطة كاميرا خفيفة محمولة أمكنها أن تلاحق الحدث في فضاءاته المختلفة ضمن لقطات متوالية (Des plan- séquences). فنزعت إلى الزهد في المونتاج ومالت إلى الأنماط الوجيزة. فلم تتجاوز غالبا الدقيقتين أو الثلاث مما منحها تكثيفا دلاليّا كبيرا.
لقد كسرت وثائقيات الجيب هذه القواعد السائدة جذريّا. فدفعت بالهم الجماليّ إلى الخلف وهمشته فلم تعوّل على خبراء الإضاءة ولم تحفل بتكوين الصورة ولا بطريقة تأطيرها. فلم تكن تقسمها إلى قطاعات بين واجهة وخلفيّة وقطاع أوسط ولم توظف تقنيّة عمق المجال ولم تأبه بقاعدة الأثلاث الثلاثة ولم تتحاش الأخطاء التقنيّة البدائيّة كالقفز على المحور (saut d’axe) أو حركيّة الكاميرا أثناء التصوير. هذا فضلا عن اعتمادها أجهزة هاوية تحدّ من جودة الصورة. ومقابل تهميش الجمالي استمدت هذه الأفلام قيمتها من عظمة اللحظة التي توثقها ومدارها على شعوب تهب لتخلع حكاما فاسدين ولتتحرر من الدكتاتوريّة في زمن تراجعت فيه الحريات عالميّا بسبب ما تسميه أمريكا بحربها على الإرهاب وانحسرت الثورات بعد أن أضحى النظام العالمي أحادي القطب واستتب الأمر لليبراليّة متوحّشة في الغرب تنحرف أكثر نحو اليمين وجمهوريات في العالم العربي تتخذ من التوريث بديلا عن التداول السلمي على السلطة.
ولكن لهذه “السينما” الوليدة عيوب قاتلة. أهمها خضوعها السريع للوظيفة التأثيريّة التحريضيّة. فكما اتخذتها الشعوب أول ظهورها بديلا إعلاميّا يكسر الطوق الذي ضربته الدكتاتوريات على المعلومة، فمنحت عزلة الأفراد القسريّة خلف شاشات الحواسيب روح المجموعة ذات اللغة المشتركة والأهداف وحوّلت وهن الفرقة إلى الشعور المتعاظم بقدرة الاتحاد على تغيير المصير الجماعيّ، مثلت في مرحلة لاحقة وسائط تقنيّة تعتمد لقولبة الرأي العام والتحكم فيه وتوجيه حماس الحشود العفوي وفق أجندات تطبخ في الغرف المظلمة والأقبية السرية لصالح محترفي السياسة. فافتقدت عفويتها الأولى وأضحت فيديوهات مصطنعة تختلق اختلاقا أو تنتزع من سياقها وتزيّف. فتنتقل سريعا من اللحظة التلقائية إلى الفن الثوري إلى آلية للدعاية وتدجين العقول المتمردة والتحكم فيها.
جامعي مختص في الصورة
Comments