صلاح الدين قايد السبسي يكتب عن: “سي الباجي” .. الأخ والصديق والزميل والزعيم الوطني
صلاح الدين قايد السبسي
ليست هذه السطور مساهمة في الاحتفاء بمرور سنة على وفاة المرحوم الباجي قائد السبسي – طيب الله ثراه – لأني لم أشعر يوما أن شقيقي و زميلي و صديقي الباجي قائد السبسي قد غاب مع إيماني بأن الموت حق و بأننا نكدح لملاقاة الله جل جلاله. الباجي قائد السبسي تجسيد في هذا الجانب للمقولة الشهيرة ” و إنما المرء ذكر من بعده ” .
شخصيا استحضر مواقفه و أسلوبه في معالجة الأشياء كل يوم لأن ما ربطني به مسيرة طويلة جعلت كل واحد منا ينظر للاخر بأنه صديقه الوحيد. و لكن ما أثلج صدري هو الاحتفاء الرسمي و الشعبي بالذكرى الأولى لوفاة المرحوم الباجي قائد السبسي و ما يشبه الإجماع من أن رحيله قد ترك فراغا و أن مسيرته كانت مشرفة و استثنائية و هذا يكفي في حد ذاته.
فقد نذر الباجي قائد السبسي حياته لخدمة شعبه و بلاده من منطلق ما يحمله من حب لتونس و لشعبها فبادله الشعب حبا عفويا تجلى في انتخابه رئيسا للجمهورية و في مناداته ” بجبوج” و هي مناداة تعكس إحساسا بالقرب لم يمنح لغيره من الشخصيات السياسية و في جنازة لم تشهد تونس المستقلة لها مثيلا.
مما لفت انتباهي أن شباب تونس لم يتجاهل الذكرى السنوية الأولى لوفاة المرحوم الباجي قائد السبسي بل تحولت المناسبة إلى حدث غطى مواقع التواصل الاجتماعي و حتى الذين كانوا يمارسون حقهم الطبيعي في معارضته لما كان على قيد الحياة اشادوا بصفاته و أشاروا إلى حجم الفراغ الذي تركه غيابه.
لن أحول الحديث عن الباجي قائد السبسي إلى مدعاة للقيام بمقارنات مع الحاضر أو مع غيره لأن الراحل العزيز كان حريصا على أن يكون كما هو و دون مقارنات و لأنه كان مسكونا بالمستقبل و هو ما جعله يبادر و يقترح و يخطط إلى آخر أيام حياته. الباجي قائد السبسي كان مسكونا في نظرته للشأن السياسي بإيجاد مجتمع أفضل للشباب و هذا ما جعله يعود بعد 14 جانفي 2011 إلى الحياة السياسية لأنه شعر أن ما حدث هو في جوهره انتفاضة شعبية مشروعة ضد القهر و الظلم والفساد و أن محرك هذه الإنتفاضة هم الشباب الذين خنقتهم المحسوبية و كل أشكال الفساد و الكبت السياسي الذي منعهم من التعبير عن آرائهم و من المشاركة في صياغة مستقبلهم.
الباجي قائد السبسي سبق له قبل رحيل زين العابدين بن علي عن السلطة أن ألف سنة 2008 كتاب ” الحبيب بورقيبة الأهم و المهم ” و الذي أهداه إلى الشباب بهذه العبارات المؤثرة و ذات الدلالة ” أهدي هذا الكتاب إلى شباب بلدي الذين لم يعيشوا الأحداث التي قادت إلى انبعاث تونس المستقلة على أمل أن يجدوا فيه أجوبة عن بعض من الأسئلة التي يطرحونها و دوافع للإيمان بالمستقبل “.
ان الإيمان بالمستقبل هو الذي جعل الباجي قائد السبسي يدرك منذ أول سنوات دولة الإستقلال ضرورة إحداث إصلاح شامل في أساليب الحكم التي اعتمدها الحبيب بورقيبة من أجل الاستجابة لتقدم الوعي و لتطلع شباب تونس منذ سبعينيات القرن الماضي إلى اليمقراطية و إلى تكريس حقوق الإنسان.
لم يساوم الباجي قائد السبسي على هذه المبادىء و حاول لما تولى رئاسة الحكومة ثم رئاسة الجمهورية وضعها موضع التطبيق هذا دون أن ننسى احترامه الشديد للمؤسسات و على رأسها الدستور الجديد حتى و إن كان مختلفا مع التوجه الغالب و السائد و مع بعض المضامين.
و ليس الباجي قائد السبسي من يحول الإحترام إلى خضوع إذ عبر عن رأيه بكل وضوح و امن بأهمية القيام بمبادرات هدفها ترك رسالة للمستقبل كما هو الشأن بالنسبة لمبادرته حول المساواة في الإرث بين المرأة و الرجل و التي تبقى مهمة متروكة للاجيال القادمة.
كتن الباجي قائد السبسي من أشد المؤمنين بالحوار و بضرورة تجميع كل القوى السياسية حول رؤية مشتركة لأن ذلك يمثل صمام الأمان و مدخلا لمصالحة وطنية متأكدة ديدنه في ذلك قوله تعالى ” و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا و اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته إخوانا و كنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ” .
لا يمكن أن استحضر ذكرى الباجي قائد السبسي دون أن أتوقف عند الجوانب الذاتية من خلال علاقتي به كأخ و زميل و صديق. كان الباجي قائد السبسي أخي الأكبر الذي أقام علاقته معي على أساس المسؤولية و العطف و المحبة. كان يشعرني بمسؤوليته تجاهي دون وصاية أو ضغط و ساهم في تطوير شعوري بالمسؤولية تجاه نفسي و تجاه الآخرين و كان عطوفا و محبا لي و لكل محيطنا إذ لا استحضر يوما أساء فيه الباجي قائد السبسي لفظيا أو معنويا للمحيطين به و المتعاملين معه.
أما الباجي قائد السبسي الذي جمعتني به الزمالة في مهنة المحاماة فقد كان حريصا على أن يمارس عمله بكامل الجدية و على أن يحترم بصرامة أخلاقيات المهنة و هو ما وضعه في مرتبة أعلى من الشبهات إذ أحترم زملائه و شرف المهنة و لم يبحث عن توظيف نضاله السياسي لتنشيط مكتب محاماته. و الباجي قائد السبسي صديق يؤمن بالصداقة و يعطيها ما تتطلبه من إهتمام و صدق و يقبل بصدر رحب النقد و الرأي المخالف
Comments