ضد الوقاحة…. لم يصمت المثقفون؟
المهدي عبد الجواد،
لم تُعمُق الثورة التونسية معدلات الفقر المادي و التفاوت الجهوي فقط، بل اضافت اليها انواعا اخرى من الفقر. الفقر القيمي و الاخلاقي، انه فقر المعاني الكبيرة. و لعل ذلك يعود اساسا، الى غياب مشروع ثقافي كبير، يمكن ان يُسهم في صناعة حلم مشترك، و يقود الجميع الى التفكير في المستقبل. لقد هيمن الخطاب السياسيوي على كل انواع الخطابات الجمالية الممكنة، و ارتفع صوت “النخب السياسية و الحزبية” فيما ضاع صوت المثقفين، في حلبة التصايح و الصراع السياسي الحاد، و لم تنتج ثورة تونس، مشروعا ثقافيا و لا ابداعا فنيا جديران بها.
ورغم ان مسار الانتقال الديمقراطي، طرح قضايا على غاية من الاهمية، و لا يزال يطرح اشكاليات خطيرة، فان المقاربة السياسية ظلت هي الغالبة. لقد انفتح مسار التأسيس على قضيية الهوية، و علاقة الدستور و مبادئه بالشريعة الاسلامية، و أثار مسائل حرية الضمير و المعتقد و الموقف من “المقدسات” و علاقة الدين بالدولة و منزلة حقوق الانسان الكونية الشاملة فيها، و هذه المسائل تناولها السياسيون، الذين كان اغلبهم مفتقدا لابسط المهارات المعرفية او التواصلية، و دون قدرة حقيقية على تأصيل هذه الاشكاليات الخطيرة، في مسار تطور دول الاستقلال الحديثة.
كما اثار تقرير الحريات الفردية و المساواة، الامر باكثر حدة. فرغم ان مسائل الميراث، و الحقوق الفردية و حرمة الجسد الانساني و حق صاحبه في التصرف فيه، و ضمان كرامة الافراد و تقديمها في الدول الديمقراطية على حقوق الجماعات، رغم ان هذه المسائل هي مسائل فلسفية معقدة تحتاج لخطاب المثقف العقلاني، ذي المعارف العميقة و المتنوعة، فقد تصدى لها مجموعة من السياسيين “المتمترسين” بمقاربات ايدولوجية بالية ومقولات تراثية غير محينة، تكرر السائد و تخاف مواجهة “العامة” و تخشى مغامرة الابداع و التجديد.
ان ايقونة الانتقال الديمقراطي في تونس، هو التوافق. و لقد برهنت النخب السياسية و المدنية التونسية على مرونة كبيرة، جنبت البلاد الاحتراب و الاحتقان الذي تعيشه بلدان شقيقة تمر بنفس مخاضات التأسيس الديمقراطي. و لكن هذا التوافق يظل رهين نزوات السياسيين، مؤقت و ظرفي و غير ثابت. فالمصالحات الكبرى و التسويات التاريخية، هي التي تسمح للشعوب بتجاوز محنها و الانطلاق في بناء مستقبلها المشترك، بناء جماعي لا يُلغي التمايز و لا الاختلاف. و ليس اقدر من المثقفين على هذا الفعل الجمالي و الابداعي. ففي حين يصمت هشام جعيط، و الهادي التيمومي و فتحي المسكيني و الطاهر لبيب و الهرماسي و محمد الحداد، و يُزج بعبد المجيد الشرفي عالم الاسلاميات الكبير، في جدل مع سياسيين لم يقرؤوا مقالا، ناهيك على كتاب، و تنتصب صفحات التواصل الاجتماعي لثلب الاعراض و هتكها. يسكن سياسيون دون معرفة شاشات التلفاز…. وتتخلخل أسس التوافق السياسي، تبعا لتغير موازين القوى.
لقد هيمن خطاب السياسيين و أشباه الخبراء و كتبة القانون على كل شيئ، و غابت الجامعة و اصوات جامعييها، على المساهمة في البناء. و يحق لنا من ثمة التساؤل، هل هناك امكانيات حقيقية لنجاح مشروع ثورة، بلا ثورة ثقافية و جمالية؟؟ هل ثمة امكانية لبناء دولة المواطنة و حقوق الانسان القائمة على تكريس كرامة الافراد، دون قطع مع موروثات التاريخ الشرقي القائم على الاستبداد، و سحق الافراد امام حقوق الجماعة دون ان تقود الجامعة و المثقفين معركة التجديد التاريخي؟
اهم ما نلاحظه هو الاستقالة الجماعية للمثقفين و المبدعين من العمل الحزبي، بعض ذلك ناشئ من الخوف على فقدان الحرية، و لكن اغلبه ناتج، على سيطرة قيم الزبونية و الانتهازية و الرداءة على مجالات الفعل العام. ينتج المثقفون عادة خطابا جماليا ايتيقيا. من اجل تكريس دولة الحق و دولة القانون. و يصبح الالتزام المواطني هو غاية اي مشروع ثقافي للدولة. و تصبح الايتيقيا و الجمال هي القاعدة التي يتم عليها بناء الفعل السياسي و التنافس الحزبي، و يتم تفصيلها في كل نواحي حياة الافراد، في المدرسة و في الشارع. ان الصراع بين مستلزمات السياسة في معناها الاجوف “فنون المناورة و المصلحية و البراغماتية و النجاعة” تصطدم بعالم القيم الاخلاقي و المشاريع الثقافية الكبرى لدى المبدعين و المثقفين. و طالما لم نحل هذا الاحراج، فاننا سنظل في مأزق، و ستظل”الوقاحة” هي منتجنا اليومي. اننا نكرس كل يوم ” الوقاحة، بما هي الاعتراف البريئ، بالهوة التي تفصل المثالية الاخلاقية على الواقعية السياسية” و طالما لم نحل هذا الاشكال و لم يفتك المثقفون زمام مبادرة الفعل و توجيه الناس نحو مشروع ثقافي، يحمي قيم الثورة و قيم دولة الافراد دولة المواطنة، فان خلاصنا يبدو بعيدا، بل ان طبقة سياسيي الصدفة، من ذوي الثقافة السطحية و المستويات التعليمية الدنيا ستظل هي المهيمنة، وسيظل انتقالنا الديمقراطي هشا و مهددا، و مستقبلنا غائما.
باحث جامعي.
Comments