علم الاجتماع و حركات الاسلام السياسي: عودة المقدس وتحوله لحراك احتجاجي .. المثال التونسي /4 من 4/
منذر بالضيافي*
اهتم الباحثين في علم الاجتماع في تونس، سواء في اطار قسم علم الاجتماع بالجامعة التونسية، أو في مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، مبكرا بظاهرة الإسلام السياسي، وذلك منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، تاريخ بداية تشكل أوظهور “الجماعة الاسلامية”، التي تحولت الى “الاتجاه الاسلامي” (الثمانينات)، ثم حركة “النهضة” (منتصف التسعينات)، والتي عرفت تحولات كبيرة، من جماعة دعوية (عودة المقدس) الى حركة سياسية تقوم على “أدلجة” الدين (الاسلام الاحتجاجي/النضالي).
3/ تحولات خطاب الاسلامية التونسية
تطرق الباحث وأستاذ علم الاجتماع عبد اللطيف الهرماسي في كتابه “الحركة الاسلامية في تونس .. اليسار، الاسلام والحركة الاسلامية” الى تحولات الخطاب الايديولوجي للحركة الاسلامية، مشيرا الى أن “الحركة الاسلامية في تونس تتميز بالحجم الكبير لإنتاجها الايديولوجي ما بين صحف وكتب وخطب وبيانات ومراسلات للصحف …” /24/
في تعليقه على نوعية هذا الخطاب يقول انه ” يختلف كثيرا من الزاوية النوعية، فباستثناء كتابات الاسلاميين التقدميين ( فصيل خرج تنظيميا من الحركة في بداية الثمانينات واهتم بالجانب الفكري) وعدد من كتابات راشد الغنوشي والتي تتميز بمجهود في التحليل فان معظم الانتاج يطغى عليه طابع السطحية والتبسيط والفقر من الناحية النوعية” /25/
وهو خطاب مع ذلك يتميز بقدرته الفارقة على التأثير نظرا “لما يلجا له من تصور درامي – كوارثي لحال الاسلام والمسلمين، والمؤامرات المحاكة ضدهم وادانته المطلقة للأخلاق السائدة ومهاجمته لأنظمة الحكم، وبما يستعين به من القران والحديث النبوي ياخذ شحنة تحريضية شديدة الفاعلية والتأثير”. /26/
ولعل هذا الخطاب التحريضي هو الذي يفسر الصبغة النضالية التي تم اعطائها للإيديولوجية الاسلامية في رفض الواقع ومثل بالتالي “عرض ايديولوجي” مهم خاصة لفئة الشباب ( مثلما بين ذلك عبد القادر الزغل : تطرقنا لذلك في الجزء الاول من هذه الورقة) الذي يعاني من الفراغ الإيديولوجي بسبب فشل منظومة الحكم وخطابها السياسي التأطيري للمجتمع وعدم قدرة الخطاب الماركسي على تقديم أجوبة عن انشغالات هؤلاء الشباب وحيرتهم لذلك وجدوا في الخطاب الجديد ملجأ ومتنفس للتعبير والاحتجاج.
هذا الخطاب الذي استطاع النفاذ لشريحة الشباب، والذي كانت الفكرة المركزية التي يستند اليها هي “أن المجتمعات الاسلامية لم تحقق تفوقها الحضاري الا عندما تمسكت بقيم الاسلام واهدافه، ومن ثما دعا للرجوع الى الماضي واحتذاء مثال المجتمع الاسلامي الاول وتطبيق الشريعة كاملة” / 27/.
ثالثا: المراجعات .. بين المناورة والمبدئية
حرصت حركة النّهضة، بعد أن انتقلت من طور المعارضة الى المشاركة في الحكم، الذي استمر منذ ثورة 14 يناير 2011 الى الان (2019) على أن يكون مؤتمرها العام العاشر(ماي 2016)، مناسبة للإعلان عن بداية “المراجعات”. هذه “المراجعات” التي كثر الحديث عنها والتّسويق لها من قبل النّهضويين، قُدَمت على أنَها ستحدث قطيعة مع “الإسلاموية التّقليدية”، نعني مع سرديات جماعة الإخوان، من خلال “الحسم” في الفصل بين “الدّعوي” والسّياسي”، وإقرار التحوّل إلى حزب مدني وطني بمرجعية محافظة أو إسلامية، على شاكلة المسيحية الأوروبية. /28/
وهو ما جعل الباحثين في علم الاجتماع السياسي في تونس يطرحون السؤال التالي: هل سيتنازل الإسلاميون عن “مشروعهم الحضاري” وعن حلم “البدايات” في إقامة “الدّولة الإسلامية”، بعد عشريَّات من “المحن” وفق تعبيرهم، لصالح القبول بالاندماج، والمشاركة في الّنظام السّياسي، الذي ناصبوه العداء حدّ “التكفير” و “التجهيل”؟.
إنّ المراجعات التي أقدمت عليها النّهضة، فرضتها التّحولات الكبرى الجارية في تونس وفي المنطقة وفي العالم، خاصة بعد ثورات الرّبيع العربي، التي “أدخلت أمة العرب عالما جديدا”. إضافة إلى تداعيات “الزلزال المصري”، المتمثل في سقوط حكم الإخوان (جوان 2013)، وتلقي الجماعة أكبر ضربة موجعة في تاريخها، كان لها ارتدادات مباشرة على فروعها ومنها تونس، حيث أجبرت “النّهضة” على تعديل الأوتار استبعادا لإعادة إنتاج ما حصل في القاهرة، كما دفعها لاحقا للإقدام على قراءة نقدية للإرث الفكري الإخواني، والإعلان صراحة عن التبرؤ من أيّ صلة –خاصة تنظيمية – بجماعة الإخوان المسلمين. /29/
كما أنّه لا يمكن التغافل على أنّ فترة الحكم كانت دافعا للمراجعة، بعد أن مكنت الحركة من الانتقال من جماعة احتجاجية، إلى حزب في الحكم أو مشارك فيه، مناسبة مكنتهم من التعرف على كيفية اشتغال مؤسسات الدولة، واكتشاف دواليبها وأسرارها، كما جعلتهم أكثر تمسكا “بنعيم وجاه” السلطة. لتنتقل الحركة من أدبيات تنظر للانقلاب على المجتمع والسلطة، وفرض النظام الإسلامي الشمولي، إلى حركة تؤمن بالديمقراطية والتغيير السلمي من داخل النظام السياسي. /30/
وهنا تم القول بأنه تم التنازل عن أهداف البدايات، إذ تضمن البيان التأسيسي للحركة الصادر بتاريخ 6 جوان/ يونيو 1981 ضبط رسالة الحركة والمتمثلة في “بعث الشخصية الإسلامية لتونس حتى تستعيد مهمتها كقاعدة كبرى للحضارة الإسلامية في إفريقيا ووضع حد لحالة التبعية والاغتراب والضلال”. بعد هذا التخلي عن هذا الخطاب، هل تمت “أسلمة” المجتمع التونسي، أم أنّه تمّ “تونسة” الإسلاميين، وهو الأقرب إلى الصّواب، برغم تأكيد الحركة على أنها نجحت في كسب ما يسمّي ب “معركة الهوية”.
1/ الاسلامية التونسية: تطورت لكن بقت إخوانية
يذهب الباحث في علم الاجتماع، المختص في حركات الإسلام السياسي، عبد اللطيف الهرماسي، إلى التأكيد على أنّ الحركة الإسلامية في تونس –حركة النّهضة- قطعت خلال المرحلة التاريخية الماضية، خطوات هامة وحققت بالفعل تطورا ملحوظا لكن هذا التطور لم يحسم بالكامل مع النواة الصلبة الفكرية للإخوان. فمن ناحية تخلّت الحركة شيئا فشيئا عما سماه راشد الغنوشي نفسه بالتّراث الفكري الانحطاطي، في التعاطي مثلا مع قضية المرأة وقبلت الحركة بالواقع التونسي، بما في ذلك حرية الاختلاط بين الجنسين، ولكن في إطار الأخلاق السياسية وكذلك خروج المرأة للعمل ومساواتها للرجل في الحقوق والواجبات. /31/
من هنا فإنّ النهضة، وفق الهرماسي، استوعبت مكتسبات الدّولة الوطنية الحديثة في معظمها. كما قبلت الحركة مع منعطف الثمانينات بالتحرّك في إطار الديمقراطية والمطالبة بها بعد أن كادت تسقط في متاهات تكفير الاشتراكية والديّمقراطية وتعتبرها بمثابة فكر جاهلي وذلك تأثرا من الحركة بفكر سيد قطب. ورغم هذا التطور بقيت حركة النهضة تعيش تناقضات حادّة لأنهّا حركة غير متجانسة، تضم أجنحة متنوّرة وأخرى سلفية شديدة المحافظة. ثم أن النّهضة لم تقطع بعد مع أرضيتها الفكرية الأولى، التي تحافظ على علاقة عضوية بين الدّين والسياسة، وترفض التمييز بينهما. وهذا الارتباط الشديد الذي أقامه مؤسس حركة الإخوان المرشد حسن البنّا، والذي يجعل من الدين وصيا على السياسة ومتحكما في كل الشؤون هو النواة الصلبة للفكر الإخواني. ولم تتخل عنه النهضة بشكل كامل وهو الذي يفسّر ادعاءات الحركة الجمع بين الشرعية السياسية الدّيمقراطية والشرعية الدينية. وفي هذا لم يقع تجاوز بيان تأسيس الحركة في 1980 وهذا يترك الباب مفتوحا لادعاء الوصاية على الدين. /32/
في حوار له مع جريدة “الشروق” التوّنسية، قال الأستاذ عبد اللطيف الهرماسي، إنّه حرص في كتاب «الحركة الإسلامية» الذي صدر في منتصف الثمانينات، على رفض الأطروحة الرّائجة آنذاك في صلب أقصى اليسار، والتي تقول إن الحركات الإسلامية رجعية وظلامية، بشكل نهائي أي غير قابلة للتطور. مشيرا إلى أنه حاول أن يبين ” أنّ حركة الاتّجاه الإسلامي التي أصبحت النهضة، انطلقت فعلا من مزيج من الفكر الزيتوني التقليدي المحافظ ومن الفكر الإخواني، واستعملتهما سلاحا لنقد وإدانة الإصلاحات الهامة التي أنجزتها الدولة الوطنية، بقيادة بورقيبة بما في ذلك تحديث المدرسة وإصدار مجلة الأحوال الشخصية والقضاء على الحواجز التاريخية من الميز بين عالم الرجال وعلام النساء”.
مشيرا إلى أنه “ورغم الطابع الماضوي الذي ميّز ردّة فعل النواة التي أسست حركة الاتجاه الإسلامي فإن المجال ما لبث أن انفتح على تطور وتحولات صلب هذه الحركة باجتماع عاملين:
ـ** إن النّخب الحداثية والتّقدمية تصدّت بالنّقد الشديد للخطاب الإسلاموي الناشئ آنذاك ومارست ضغطا فكريا أتى أكله.
ـ ** إن الحركة الإسلامية كانت تتكوّن وتضمّ في صفوفها من أبناء المدرسة التي أرساها بورقيبة وتأثروا في تربيتهم من حيث يشعرون ولا يشعرون بالقيم وبالاتجاهات الجديدة التحررية التي نشرها بورقيبة وبالتالي كانت التربة مهيّأة في تونس لتطوّر الحركة الإسلامية وتخليها عن عناصر من الإيديولوجية الماضوية والرجعية أكثر بكثير مما يوجد في بلدان عربية أخرى.
كما دعا الباحث في علم الاجتماع التونسي عبد اللطيف الهرماسي الجماعات الإسلامية أن تختار بين أن تكون جمعيات دينية تقتصر على الدّعوة الدينية والإرشاد الأخلاقي بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، أو أن تكون أحزاباً سياسية مدنية ببرامج سياسية تؤطرها مرجعية ثقافية إسلامية. /33/
وأوضح الهرماسي، في حوار له نشره الموقع الإلكتروني لـ”مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث” وأجرته الباحثة التونسية يسرى بن الهذيلي، أن على الجماعات الإسلامية “الانخراط في مسار واضح يضع حداً لنشدان الشرعية المزدوجة والغموض الذي يجعل المواطنين لا يعرفون، إن كان هدف هذا الحزب أو ذاك إقامة نظام ديمقراطي مدني، أم فقط استغلال ما تتيحه الدّيمقراطية من أدوات لإقامة إمارة إسلامية”.
ونبّه الهرماسي إلى مساوئ الاستغلال الخاطئ للدّين الإسلامي، داعياً إلى تحقيق شروط المصالحة بينه وبين الحداثة، ودعم جاذبيته وحضوره ليكون عامل توازن وأمان اجتماعي ونفسي وقوة فاعلة في بناء المجتمع الوسط. /34/
2/ اسلاميو تونس .. إلى أين ؟
برغم كل الليونة التي تعامل بها الإسلاميون في تونس قبل وبعد الحكم، فان أزمة الثقة ما تزال تميز علاقاتهم بالعديد من قوي المجتمع وخاصة النخب. ما يجعلهم مطالبون بتفنيد كل “التخوفات”، عبر التعاطي بايجابية وبتفاعل عقلاني مع المجتمع التونسي، من خلال الانتصار إلى “إسلام حركي تونسي” يأخذ في المقام الأول خصوصية التجربة التحديثية التونسية، التي تعود إلى حركة الإصلاح في القرن التاسع عشر، وتعد الدولة الوطنية استمرار لها.
و العمل من أجل التأسيس لتوافق بين هوية المجتمع و علمانية الدولة، على غرار التجربة التركية التي تحظي بالإعجاب لدي الحركة الاسلامية التونسية. و الابتعاد عن الأخطاء القاتلة التي طبعت تجارب حكم الإسلاميين، في السودان وإيران وأفغانستان. و لعل الضمانة في عدم الوقوع في مثل هذه التجارب، تكمن في كون المجتمع التونسي له من الحصانة ما يجعله قادرا على حماية مكاسبه. هذا ما يفسر أن هناك إقرارا بأن للحركة الإسلامية في تونس لها خصوصية اكتسبتها من بيئتها، فأغلب الدراسات التي أنجزت حول الإسلامية التونسية، تشير إلى أنها تطورت ضمن السياق التاريخي والإجتماعي التونسي، ما سمح ب “تونسة” النهضة لا “أسلمة” تونس، وهو ما سعت الحركة لفرضه لكن فشلت فيه.
لذلك فان النهضة مطالبة بإجراء قراءة نقدية علنية لمساراتها وخاصة تجربة الحكم، التي غذت مطامعها أكثر في الانقلاب على المجتمع والدولة، ما جعلها تكون محل حركة رفض اجتماعي واسعة. كما عليها أن تفهم جيدا التحولات الجارية في خارطة الحركات الإسلامية، عبر التمييز بين الإصلاحية أو المعتدلة وغيرها من المتشددة أو من “الدواعش”. فضلا على ضرورة استيعاب الحداثة والعلمانية في الفكر والممارسة السياسية. .وهي كلها مقدمات ضرورية للقطيعة مع الأخونة أو الإسلاموية التقليدية، لبناء حزب إسلامي ديمقراطي، على غرار تجربة الأحزاب المسيحية في الغرب الأوروبي. حينها يمكن الجزم بأن حركة النهضة قد تغيرت، وبلا رجعة.
رابعا: خلاصات واستنتاجات
أول ما يمكن ملاحظته، ونحن نتتبع نشأة وتطور ظاهرة الإسلام السياسي في تونس كما تناولها علماء الباحثين في حقل علم الاجتماع في الجامعة التونسية، هو العلاقة المبكرة للإسلاميين بالساحة السياسية وبالفاعلين فيها. حيث اختارت الحركة الخروج مبكرا لساحة العمل السياسي العلني، بعد عشرية واحدة من حضورها في العمل الدعوي. عندما أعلنت في سنة1981، مباشرة بعد سماح نظام بورقيبة بالتعددية الحزبية، عن تحولها إلى حزب سياسي “مدني”، وغيرت اسمها ليصبح “حركة الاتجاه الإسلامي” في دلالة على تأكيد مرجعيتها الدينية. /35/
كما مكنتنا هذه المقاربة التاريخية التي اعتمدت كمنهج للباحثين السوسيولوجيين التونسيين في العودة لنشوء الظاهرة من فهم المنطلقات النظرية وكذلك خصوصية الحركة الإسلامية في تونس، التي سنري أنها استمدتها من خصوصية مجتمعها، مثلما شدد على ذلك الثلاثة الباحثين الذين رجعنا اليهم ( عبد القادر الزغل، عبد الباقي الهرماسي وعبد اللطيف الهرماسي)، الذي أجمعوا على “أن الحركة الاسلامية ليست ظاهرة خارجة عن المجتمع أو مزروعة فيه بصورة مصطنعة، بل ولدت من رحمه وهي نتاج لأزمته. أثرت فيه وتأثرت به. وهي ليست ظاهرة ثابتة أو ساكنة…”.
ولعل المحافظة علي هذه الخصوصية التونسية تعد شرطا ضروريا للاستمرارية، وأيضا للقبول بها في المشهد السياسي. وخاصة في مرحلة الانتقال الديمقراطي التي دخلتها تونس بعد ثورة 14 يناير 2011، والتي ستمثل مناسبة لاختبار الحركة وخاصة وهي تشارك في الحكم.
إن استعادة الماضي لا تعني –أو بغاية- التأريخ لهذا التيار، بل أنها ضرورة منهجية تمكن الباحث الاجتماعي من التعرف على المتن الإيديولوجي والسياسي للحركة. وكذلك البيئة التي نشأت فيها الظاهرة الإسلامية في تونس. وبالتالي وصل الماضي بالحاضر، والوقوف عند الأسس والمنطلقات التنظيمية والفكرية لهذا التيار، والتي ستبقي متحكمة في كافة مراحل تطوره وستطبع أداؤه السياسي وستكون محددة في قبول الإسلاميين بالديمقراطية من عدمه. هذا ما سيسهل علينا الوقوف عند مدي قبول حركة “النهضة” حاليا بوصفها التيار الإسلامي الغالب والمؤثر، بفكرة التداول السلمي على السلطة، وهي مسألة ملحة خاصة اثر وصولهم للحكم. /36/
مثلما بينت الدراسات في مجال علم الاجتماع التي استعرضناها ترجع بدايات العمل الإسلامي “الحركي” في تونس، إلى نهاية ستينات القرن الماضي، وهذا ما تشير إليه مختلف أدبيات الحركة الإسلامية وكذلك شهادات رموزها وقياداتها وكانت في انطلاقتها بمثابة ردة فعل من شباب متحمس للفكرة الإسلامية، على ما اعتبروه تهميش للإسلام ولمؤسساته التقليدية (القضاء الشرعي والحبس والتعليم الديني ممثلا في جامعة الزيتونة…)، من قبل دولة الاستقلال ومشروعها التحديثي بزعامة الحبيب بورقيبة. بل أنهم كانوا يرون أن تجربة بورقيبة التحديثية، قائمة على محاربة الإسلام كدين للبلاد والمجتمع.
ما يكشف أن الجماعة كانت تعمل على التأسيس لمشروع مجتمعي بديل، وليس مجرد حركة إصلاحية تروم إعادة سؤال الهوية إلى الحراك المجتمعي والثقافي العام في البلاد. فهل استطاعت بعد مرور حوالي نصف قرن التخلي عن هذا الحلم؟
يري المشتغلين في مجال العلوم الاجتماعية في تونس أن الحركة الإسلامية في تونس، “ممثلة في خطها العريض في السبعينات بـالجماعة الإسلامية” وفي الثمانينيات بـ”حركة الاتجاه الإسلامي” ثم “حركة النهضة” منذ نهاية الثمانينيات، قد ولدت من رحم المجتمع التونسي، استجابة لمطلب مجتمعي في الدفاع عن الهوية.
بما يبرز أنها كانت في الأساس نتيجة تفاعل مع محيطها التونسي، لكنه لم يعرف عنها تفاعلها مع الإسلام التونسي الزيتوني. وهي أيضا ليست مجرد استنساخ لتجربة الإخوان المسلمين في المشرق العربي. وان كان هذا لا ينفي تأثرها بهذا التيار الذي تجاوز حدود تأثيره مصر والمشرق العربي، ليتحول إلى حركة “إحياء” إسلامية ذات طابع أممي. بصفته التيار الغالب والمهيمن – منذ أكثر من تسعين سنة بعد أن أسس حسن البنا جماعة الاخوان، التي ستعرف لاحقا بالحركة الإسلامية أو الإسلام السياسي.
لقد فاجأ بروز الظاهرة الإسلامية في سبعينات القرن الماضي، النظام السياسي البورقيبي، وكذلك النخب الفكرية والجامعية. على اعتبار وأن البيئة التحديثية التونسية آنذاك كانت في نقيض مع كل أشكال تصور ممكن ل”عودة المقدس”، ليتحول إلى مطلب إيديولوجي للشباب الطلابي التونسي، مثلما بين ذلك أستاذ علم الاجتماع عبد القادر الزغل (الجزء الأول من هذه الورقة).
ارتبط ظهور الإسلام السياسي بعاملين اثنين. تمثل الأول في وقوع حوادث تاريخية كبري، في حين ارتبط العامل الثاني بفشل النمط التنموي لدولة الاستقلال أو “الدولة-الأمة’ وفق المنظور الغربي. فقد سبق للإسلاميين أن استفادوا من هزات اجتماعية وأزمات سياسية سابقة حدثت في العالم العربي. فقد ساهمت الأحداث السياسية التي عرفتها المنطقة في دعم حضور الحركة الإسلامية في المجتمعات العربية، ومنها نكسة 1967، والتي تحولت إلى انتكاسة كان من علاماتها تراجع تيار “القومية العربية”. كما يمكننا التنبيه إلى أن الصعود القوي للحركات الإسلامية في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات هو إفراز لانتشار فكرة مشروع “النهضة الإسلامية الكبري أكثر منه إفرازاً لدور البطالة والأزمات الاقتصادية، وإلا كيف نفسر تواجد هذه الحركات في بلدان الخليج العربي الغنية بنفطها وبدخلها الفردي الخام” .
يفسر البعض الظهور القوي للإسلاميين في تونس زمن بورقيبة، “بقدراتهم” السياسية في التفاعل أو -“التدافع” مفهوم قراني يستعمل بكثرة في أدبيات الإسلاميين- مع الوضع السياسي والاجتماعي الذي كانت تعيشه البلاد في نهاية السبعينات من القرن الماضي، والتي تميزت بالصدام القوي بين نظام الرئيس الحبيب بورقيبة والاتحاد العام التونسي للشغل، الذي مثل مقدمة لأحداث –انتفاضة- 26جانفي 1978 التي هزت النظام الاقتصادي والاجتماعي وأيضا البنية السياسية للنظام، من ذلك أنها سرعت بالدخول في إصلاحات طالت لأول مرة الجانب السياسي والحقوقي، من خلال السماح بتكوين الأحزاب والقطع مع هيمنة الحزب الحاكم على الحياة السياسية.
المراجع والاحالات:
1/ عبد الطيف الهرماسي، “الحركة الاسلامية في تونس .. اليسار الاشتراكي، الاسلام، والحركة الاسلامية”، (تونس، بيرم للنشر، 1985)، ص 11
2/ عبد الباسط عبد المعطي، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990، ص9-11
3/ المرجع السابق، ص 9-11
4/ المرجع السابق، ص 9-11
5/ حمادي الرديسي، كتاب جماعي حول عبد القادر الزغل، تحت اشراف محمد كرو، دار سيراس للنشر، 2015، ص 15
Mohamed Kerrou, Abdelkader Eghal L’homme des questions, cérès editions, tunis, 2015
6/ عبد القادر الزغل حول : “عودة المقدس والطلب الأيديولوجي الجديد للشباب المدارسي: مثال البلاد التونسية”
/ Le retour du sacré et la nouvelle demande idéologique des jeunes scolarisés : le cas de la Tunisie
http://aan.mmsh.univ-aix.fr/volumes/1979/Pages/AAN-1979-18_58.aspx http://aan.mmsh.univ-aix.fr/volumes/1979/Pages/AAN-1979-18_58.aspx
7/ عبد القادر الزغل، المرجع السابق
8/ عبد القادر الزغل، المرجع السابق
9/ عبد القادر الزغل، المرجع السابق
10/ المنصف وناس، “الدين والدولة في تونس : 1956 – 1987″، ص 467، من كتاب جماعي: “الدين في المجتمع العربي”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990
11/ المرجع السابق
12/ المرجع السابق
13/ / سعد الدين ابراهيم، الصراع حول الهوية والصراع حول الدين، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، عدد أفريل 1984
14/ مرجع سابق، عبد القادر الزغل حول : “عودة المقدس والطلب الأيديولوجي الجديد للشباب المدارسي: مثال البلاد التونسية”
15/ عبد الباقي الهرماسي، الاسلام الاحتجاجي في تونس، الحركات الاسلامية المعاصرة (كتاب جماعي)، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 1987، ص 249
16/ المرجع السابق، ص 250
17/ المرجع السابق، ص 250
18/ المرجع السابق، ص 255
19/ المرجع السابق، ص 256
20/ المرجع السابق، ص 257
21/ المرجع السابق، ص 257
22/ المرجع السابق، ص 266
23/ المرجع السابق، ص 266
24/ عبد اللطيف الهرماسي، الحركة الاسلامية في تونس .. اليسار الاشتراكي، الاسلام والحركة الاسلامية، بيرم للنشر، تونس، 1985، ص151
25/ المرجع السابق، ص 151
26/ المرجع السابق، ص 151
27/ محمد عابد الجابري “نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان،
28/ منذر بالضيافي، النهضة .. الهروب من المعبد الاخواني، مطبعة قرطاج، تونس، مارس 206
29/ المرجع السابق، ص 175
30/ المرجع السابق، ص 187
31/ الدكتور عبد اللطيف الهرماسي يتحدث لــ «الشروق»:النهضة تطورت… لكنها لم تحسم مع فكر الاخوان
الرابط التالي:
32/ المرجع السابق
33/ المرجع السابق
34/ عبد اللطيف الهرماسي، حوار للموقع الإلكتروني لـ”مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث”، أنظر الرابط التالي:
35/ منذر بالضيافي، الاسلاميون والحكم .. تجربة حركة النهضة في تونس، ورقة للنشر، تونس، 2014، ص 21
36/ المرجع السابق، ص 22
Comments