عمرو حمزاوي، يكتب عن: "معمل التحول الديمقراطي في تونس"
عمرو حمزاوي*
تحت عنوان “معمل التحول الديمقراطي في تونس” نشر الباحث في العلوم السياسية عمرو حمزاوي مقالا هو ثمرة مشاركته في ملاحظة الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية والذي اشار فيه الى أن تونس “تدخل مرحلة جديدة في تحولها الديمقراطي عبر إنجاز الانتخابات التشريعية بنسبة مشاركة فوق 40 في المئة وبشفافية ونزاهة وبنتائج تحول دون سيطرة فريق إيديولوجي واحد على البرلمان الجديد”.
أتيحت لي فرصة للمشاركة في أعمال المراقبة الدولية للانتخابات التشريعية التونسية التي أجريت يوم الأحد الماضي. في فريق جمع بين مراقبين عرب وأجانب، جاء توزيعي في ولايتي جندوبة والكاف الواقعتين في الشمال الغربي. وفي الولايتين المتميزتين بالطبيعة الزراعية وبالكثافة السكانية المنخفضة، تحركت بين مناطق مختلفة مقتربا ومبتعدا من الحدود التونسية-الجزائرية.
ذهبت إلى جندوبة والكاف متوقعا أن يغلب على المشهد الانتخابي عزوف المواطنين عن التصويت وابتعادهم عن مراكز الاقتراع بعد أن شاع اليأس من الأحزاب والسياسيين مع تواصل تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وبالفعل دللت نتائج واتجاهات التصويت الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية التي دفعت قبل أسابيع قليلة بالمرشح المستقل قيس سعيد والمرشح غير الحزبي نبيل القروي إلى جولة الإعادة، دللت على الوضعية السيئة للأحزاب وللسياسيين المحترفين الذين لم يتوقفوا لا عن إطلاق الوعود التي لم تترجم إلى إجراءات واقعية ولا عن التورط في صراعات السلطة وتجاذبات المصالح.
ذهبت إلى جندوبة والكاف متوقعا انخفاض نسبة مشاركة المواطنين في التصويت عن الانتخابات البرلمانية في 2014 وعن الجولة الرئاسية الأولى (تجاوزت نسب المشاركة حاجز 50 بالمائة في الحالتين)، ومتهيبا من التداعيات المحتملة لمراكز اقتراع خاوية على عروشها على التجربة الديمقراطية التونسية وعلى المطالبة الشعبية بالتحول الديمقراطي في بلاد العرب. فقد ابتعدت تونس عن انهيارات بلدان الربيع العربي التي أعادت بها الحكومات السلطوية التأسيس لسيطرتها الشاملة على المواطنين إن عبر الممارسات القمعية وانتهاكات حقوق الإنسان أو من خلال شن حروب التصفية والإبادة على المجتمعات. وليس للعرب من دعاة الديمقراطية من خبرات إقليمية ناجحة للتداول السلمي للسلطة ولاحترام حكم القانون ولابتعاد الجيوش والأجهزة الأمنية عن السياسة غير الخبرة التونسية منذ 2011.
ذهبت إلى جندوبة والكاف متمنيا تغليب المواطنين للأمل في الآليات الديمقراطية على الرغم من تهافت الأحزاب، وللثقة في قدرتهم على تغيير دفة الحكم والسياسة في تونس عبر المشاركة في الانتخابات والمزاوجة بين التصويت العقابي ضد سياسيي الوعود الفارغة والصراعات الدائمة وبين التصويت الإيجابي لأصحاب البرامج الانتخابية الواقعية. تمنيت أن تتسم الانتخابات التشريعية بالشفافية التي لها أن تبقي على حد أدنى من التأييد الشعبي للتحول الديمقراطي، وبالنزاهة التي يحتاجها الشعب التونسي مرتفع المستوى التعليمي لكيلا تنسحب أغلبيته من الفضاء العام والسياسة، وبالتنافسية بين قوائم حزبية وقوائم مستقلة قادرة على إدارة شؤون البلاد ويستطيع من ثم دعاة الديمقراطية العربية توظيفها حضورها للدفع بإمكانية تداول السلطة وتدوير النخب الحاكمة سلميا عبر الصناديق وبعيدا عن تدخلات العسكريين والأمنيين.
في جندوبة سجل المواطنون نسبة مشاركة في الانتخابات حول 30 بالمائة وهي مع النسبة المسجلة في ولاية قصرين (28 بالمائة) النسبة الأدنى بين كافة الولايات التونسية وفقا للهيئة الوطنية المستقلة للانتخابات، بينما ارتفعت نسبة المشاركة في الكاف إلى ما يقرب من 38 بالمائة. بل جاءت النسبة العامة للمشاركة في حدود 42 بالمائة، وهي وإن انخفضت عن النسب المسجلة في الانتخابات الماضية إلا أنها لم تسقط في هوة ما دون 25 بالمائة السحيقة التي توقعها كتر من متابعي السياسة التونسية في الداخل والخارج. في ولايتي جندوبة والكاف تفتت الأصوات بين القائمة المستقلة «قلب تونس» التي يرعاها مرشح جولة الإعادة الرئاسية نبيل القروي وحركة «النهضة» الإسلامية وقوائم يسارية وليبرالية مستقلة، وعكست هذه النتائج التوجهات الغالبة في عموم الولايات التونسية على نحو سيعني حتمية انفتاح القوائم الحزبية والمستقلة التي حازت على أعداد مرتفعة من الأصوات على مفاوضات للائتلاف وبناء التحالفات مع القوائم الأصغر. ها هي انتخابات تشريعية تنافسية في بلد عربي لا يحسمها الإسلاميون لصالحهم، ويجبرون بها على تحمل خسائر مؤثرة في الصناديق، ويدفعون إلى البحث عن حلفاء بين الليبراليين واليساريين وبين المنتسبين للمطلبية الديمقراطية وبين الباكين على رحيل حكومة زين العابدين بن علي.
في الولايتين، أديرت الانتخابات بشفافية ونزاهة مبهرتين. حضرت كل عناصر العملية الانتخابية الديمقراطية؛ هيئة وطنية مستقلة لإدارة الانتخابات، مديرون لمراكز الاقتراع وموظفون يتبعون الهيئة الوطنية تم تدربيهم جيدا، مراقبون محليون مستقلون، ممثلون عن القوائم الحزبية والمستقلة، مراقبون دوليون، وحضور شرطي وعسكري للتأمين يتسم بالاحترافية والامتناع الكامل عن التدخل في سير الانتخابات. وسجلت ذات الإدارة الشفافة والنزيهة في عموم تونس، ولم تأت تقارير عن تجاوزات مثل شراء الأصوات أو التأثير على اختيارات الناخبين أو الدعاية في فترة الصمت الانتخابي سوى بشكل محدود للغاية.
بإنجاز الانتخابات التشريعية في تونس بنسبة مشاركة فوق 40 بالمائة وبشفافية ونزاهة وبنتائج تحول دون سيطرة فريق إيديولوجي واحد على البرلمان الجديد، يدخل هذا البلد العربي العزيز على القلب مرحلة جديدة في تحوله الديمقراطي. ستشكل حكومة جديدة ذات أغلبية برلمانية مغايرة عن حكومات ما بين 2014 و2019، بعد الانهيار الانتخابي لنداء تونس وتراجع أصوات حركة النهضة. ستتداول السلطة، إذا، بشكل سلمي بعيدا عن تدخلات الجيوش والأمن ودون عودة لحكومات مستبدة تلتف بأدوات العنف والقمع على إرادة الشعوب. وسينتظر التونسيون جولة الإعادة الرئاسية لاستكمال البناء الديمقراطي ولمعرفة هوية ساكن قصر قرطاج ووجهة دوره في الحكم والسياسة. وسيستطيع دعاة الديمقراطية العرب استدعاء «معمل التحول التونسي» للتدليل على إمكانية نجاحنا في التحول بعيدا عن الاستبداد والسلطوية.
فهنيئا للشعب التونسي، وهنيئا لدعاة الديمقراطية العرب.
*عمرو حمزاوي
تشمل أبحاثه الديناميكيات المتغيّرة للمشاركة السياسية في العالم العربي، ودور الحركات الإسلامية في السياسة العربية.
Comments