الجديد

عن الحرب الأهلية الافتراضية

خالد شوكات

نفتخر كديمقراطيين تونسيين بأن بلدنا لم يسقط في ما سقطت فيه بقية دول ثورات الربيع العربي، التي فشلت فيها مسارات الانتقال الديمقراطي وانتهت غالبيتها إلى دول فاشلة جراء انقلاب الصراع السياسي الى حروب أهلية، اين يتقاتل الاخوة الأعداء بالسلاح، يسفكون دماءهم بأنفسهم ويخرّبون بيوتهم بأيديهم.

في هذا الزمن الاتصالي علينا الانتباه إلى ظهور جيل جديد من الحروب، حروب رقمية و صراعات افتراضية، وهي حروب يمكنها ان تتطور الى نزاعات واقعية، وقد اصبح لكل نوع من الحروب الواقعية نظير افتراضي، فالصراع الدولي على الارض مثلا اصبحت له نسخة رقمية وافتراضية، ولهذا لم يعد التسابق على التسلّح يقتصر على الأسلحة والمعدات المادية، طائرات وصواريخ ودبابات وبوارج ورادارات وغيرها من التجهيزات، بل كذلك على الأسلحة الرقمية والافتراضية من قبيل المنظومات المعلوماتية ومحركات البحث وبرامج القرصنة والاختراق واجيال الانترنت المتعاقبة، ومثلما تتسابق القوى الدولية على تأهيل جيوشها الواقعية لخوض الحروب والدفاع عن بلدانها ومصالحها، اصبح التسابق ايضا على بناء وتأهيل الجيوش الرقمية لخوض الحروب الافتراضية.

ولكن المفارقة التي تخصّنا هي ما يمكن تسميته ب”الحرب الأهلية الافتراضية”، فالدول العادية تمتلك جيوشا افتراضية تخوض بها نزاعاتها الدولية والاقليمية، لكنَّ دولا اخرى عرفتْ ظهور “الميليشيات الافتراضية” بدل الجيوش الافتراضية النظامية، وظيفتها الانخراط في هذه الحروب الداخلية القذرة في العالم الافتراضي، خصوصا في وسائط التواصل الاجتماعي.

علينا كتونسيين الاعتراف بهذه الحقيقة المرة. صحيح اننا لم ننزلق الى حرب أهلية على غرار ما فعل أشقاؤنا في اليمن وليبيا وسوريا، ولكننا نتقاتل في العالم الافتراضي مدفوعين بذات التناقضات المادية والصراعات الوجودية والمفاهيم الاستعدائية والمصطلحات الحربية، ولم تتردد جل القوى ومراكز النفوذ -حتى لا اقول كل- في تشكيل “ميليشيات افتراضية”، خصوصا “ميليشيات فايسبوكية”، منذ اليوم الاول الذي انطلق فيه مسار الانتقال الديمقراطي، تتبادل الغزوات والعمليات والحملات فيما بينها، في إطار حرب أهلية افتراضية قذرة تُستباح فيها الأعراض والضربات تحت الحزام وتنفذ فيها الاغتيالات المعنوية والتصفيات الرمزية.

ولعل الخطر الابرز المحدق اليوم بالبلاد والديمقراطية هي حقا هذه الحرب الأهلية الدائرة بضراوة وبلا توقف منذ ما يقارب العشر سنوات في العالم الافتراضي، أهلكت الزرع والضرع، ووفرت مناخا مناسبا لاندلاع حرب أهلية واقعية في اي لحظة. عندما أقوم بزيارات ميدانية في النسخة الافتراضية لبلادنا، وارى هذا الانقسام الحاد بين معسكرات السياسة واليديولوجيا والمصالح، وهذا الانحطاط الاخلاقي والسياسي، وانظر في هذه الكميات المستعملة من ذخيرة الحقد والكراهية وقذائف السب والشتيمة وصواريخ التحريض والاستعداء بين أبناء الوطن الواحد، أتأكد اننا لا يمكن ان نتقدم في اي اتجاه صحيح، اتجاه الديمقراطية او اتجاه التنمية، دون إيقاف هذه الحرب وتفكيك هذه الميليشيات والاتفاق على ميثاق مصالحة وإدماج المقاتلين الافتراضيين في مؤسسات نظامية.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP