عن العلاقة بين النداء والنهضة وفي الفارق بين الاختلاف والاقصاء
بقلم: خالد شوكات*
تستعد الحركة الوطنية الاصلاحية الدستورية للاحتفال بمائة عام على تأسيس أول أحزابها السياسية، الحزب الحر الدستوري الذي تأسس على ايدي ثلّة من زعماء الحركة، في مقدمتهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي رحمه الله، في شهر مارس 1920، واتخذ من النخلة رمزا له كما ذكر ذلك الاستاذ الحبيب بولعراس في كتابه الموسوعي حول تاريخ تونس، وهو ما قد يشكّل مفاجأة لعدد كبير من أبناء حركة نداء تونس، بمن في ذلك قيادات مؤسسة قد تجهل هذه الوحدة الرمزية بين حزب الشيخ الثعالبي وحزب الباجي قائد السبسي، فالمخيال الندائي الجمعي يذهب عادة الى الربط أكثر مع حزب الزعيم الحبيب بورقيبة ولذلك ما يبرره، لكن المجال لا يسع للشرح.
يشير بعض المؤرخين الى معطيين أساسيين في تأسيس الشيخ الثعالبي ورفاقه للحزب، أولهما ان الحزب الحر الدستوري هو امتداد او تجديد لتجربة حركة الشباب التونسي التي تأسست سنة 1907، علي يد الايدي ثلة من الوطنيين من بينهم من سيساهم مجددا في تأسيس حزب 1920، وثانيهما تأسيس الحزب على ضوء تجربة حزب الوفد المصري الذي تشكّل قبل ذلك بعام، اي في 1919، بقيادة الزعيم سعد زغلول باشا، الذي سيخلفه ابتداء من الثلاثينيات تقريبا، النحّاس باشا، الذي كان يحلو للزعيم بورقيبة تشبيه نفسه به، بالنظر الى التشابه الحاصل في الاذهان حينها بين الشيخ الثعالبي وسعد زغلول باشا.
من الاهمية بمكان هنا، الانتباه الى ان الأجواء التي هيمنت على البلاد العربية بين الحربين، من العراق وسوريا شرقا، الى مصر، الى تونس والمغرب غربا، كانت اجواء ليبرالية ارتكزت على تعددية حزبية وتنافسية سياسية واضحة، وكانت الملكيات القائمة حينها في ظل الاستعمار الانجليزي او الفرنسي تسمح للنخب بهامش كبير من الحرية، انعكس على الانتاج الفكري والأدبي والسياسي الذي كان غزيرا ونوعيا، وهي الأجواء التي ستغيب تدريجيا والى حد كبير في ظل دول الاستقلال التي غلبت عليها ابتداء من الخمسينيات نزعة جمهورية احادية ، عسكرية وأمنية، ناصبت التعددية الحزبية والتنوع السياسي والحريّة الفكرية العداء، وقامت بالتشديد على المعارضة ومنع أنشطتها، وتركيز أنظمة أحادية مرتبطة بوجود زعيم أوحد يقود حزبا حاكما واحدا.
لقد ولدت الحركة الوطنية الاصلاحية الدستورية التونسية في ظل اجواء تعددية وبشعارات ديمقراطية، على الرغم من الحالة الاستعمارية، لكن هذه الحركة ستتحول ابتداء من سنة 1959، الى حالة الحزب الحاكم الواحد بحجة الحاجة الى الوحدة الوطنية في مواجهة استحقاقات التنمية وبناء الدولة الوطنية المستقلة، وكان المبرر هو الاستثناء، ولهذا علينا ان نلاحظ ان حالة الاحادية السياسية لا تشكل الأصل مثلما يعتقد البعض، فهي عمليا (شكليا على الاقل) لم تدم سوى عقدين من الزمان، هما ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وكان الأصل خلال قرن من الزمان هو التعدد، وهذه حقيقة تاريخية لا يمكن إغفالها في الوقوف على الثابت والمتحول في الفكر الوطني الاصلاحي الدستوري التونسي، فقد كان الدساترة ” مؤمنون بالتعددية غالبا، سواء فيما بينهم (الدستوري الجديد والدستوري القديم) او مع الآخرين (الشيوعيين، الليبراليين…الخ).
من الحقائق التاريخية التي يمكن تسطيرها في سيرة الحركة الوطنية الاصلاحية الدستورية ايضا، ان ابناءها كانوا السباقين في معارضة نظام الحزب الواحد والمطالبة بالتعددية السياسية، فقد طالب الزعيم النقابي احمد التليلي في رسالته الشهيرة التي وجهها في جانفي 1966 للزعيم بورقيبة بالعودة الى النظام الديمقراطي التعددي، كما برزت في مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري المنعقد سنة 1971، مجموعة الاستاذ احمد المستيري التي ستتطور الى اول حركة معارضة معترف بها تحت اسم “حركة الديمقراطيين الاشتراكيين”، وقد نادت مبكرا بالإصلاح السياسي،
اما الموجة الاصلاحية الثالثة من داخل النظام البورقيبي، فقد قادها الاستاذ محمد مزالي رئيس الوزراء والرجل الثاني في الحكم، والذي استطاع إقناع الزعيم بورقيبة باضفاء جرعة من الديمقراطية على النظام القائم. تبدو النزعة التي تروج لها بعض الأوساط الدستورية الحالية، تشكل أقلية في رأيي، ذات مصدرين أساسيين كلاهما يمثل الاستثناء لا القاعدة في تاريخ الحركة الوطنية الدستورية التونسية، أولهما يعود الى السنوات الاخيرة من زمن الرئيس بورقيبة، التي قرر فيها الزعيم الدخول في مواجهة مفتوحة مع الإسلاميين، المتأثرين حينها بانتصار الثورة الاسلامية الايرانية، وثانيهما يرجع الى سنوات المواجهة الحادة بين الرئيس زين العابدين بن علي والحركة الاسلامية، والتي بدا في نهاية الامر انها لم تكن حلّا لما يسميه البعض “معضلة الإسلاميين”،
فقد افضت سياسة بن علي في نهاية الامر الى ثورة كادت تهز اركان الدولة الوطنية المستقلة وتقضي على مكتسباتها ومنجزاتها لعقود طويلة، ولهذا يؤكد البعض ان الرئيس بن علي كان سيراجعها بنفسه لو كتب له البقاء في الحكم. لقد نظر عدد كبير من قيادات الحركة الدستورية الى الثورة باعتبارها مناسبة للقيام بالنقد والمراجعة الضروريين، والعمل على اعادة بناء الحركة على أسس ديمقراطية، وفيّ مقدمة هؤلاء كان الزعيم الباجي قائد السبسي، الذي لم يكتف بدوره كرئيس للحكومة التي قامت برعاية الثورة وأهدافها وأدت الى تنظيم اول انتخابات نزيهة وشفافة في اكتوبر 2011، بل بادر الى تأسيس حركة نداء تونس باعتبارها نسخة جديدة وديمقراطية لحزب الحركة الوطنية الاصلاحية الدستورية التونسية،
وكان لهذه الحركة دور حاسم في إنقاذ مسار الانتقال الديمقراطي والذهاب الى طاولة الحوار الوطني والتوافق على دستور الجمهورية الثانية، ثم السعي الى الفوز باننتخابات اكتوبر 2014، ليس بهدف إقصاء الخصوم السياسيين بل من اجل فرض اسس نظام ديمقراطي حقيقي يستند الى توازن سياسي حقيقي، لا الى اعادة انتاج النظام الاحادي والتسلطي والفردي السابق.
لقد كان اللقاء الذي عاشته حركة نداء تونس مع حركة النهضة في مؤسسات الحكم خلال الفترة من 2015 الى 2018، لقاء مصلحة وطنية تهدف لحماية مسار الانتقال الديمقراطي وتجنيب بلادنا ويلات وشرور الهزات التي عاشتها بلدان الجوار الإقليمي، ولم تكن ابدا مثلما يحاول البعض تصوير ذلك، لقاء تبعية بل لقاء شراكة و ندية، ولو كتب التاريخ ان يعود الى الوراء ويضع الزعيم الباجي قايد السبسي في الموقف نفسه، لما تردد في اتخاذ ذات القرار فقد كانت مصلحة تونس عنده تتقدم على مصلحة الحزب، وقد كان هذا الناظم لسلوك حزب الحركة الوطنية منذ تأسيسه قبل قرن من الزمان، وفي ذلك احد اسرار تميز تونس والنجاح النسبي الذي حققته تجربتها في التحول الديمقراطي.
ان تحويل وجهة الحركة الوطنية الاصلاحية الدستورية واختطافها من جديد لتحقيق اهداف ضيقة ومصالح مؤقتة، هو جريمة حقيقية ترتكب في حق عائلة سياسية هي الأعرق قياسا بغيرها من العائلات السياسية الناشطة ( الشيوعيون في الاربعينات، القوميون العرب في الخمسينات و الاسلاميون في الستينات)
فخيار الزعيم الباجي قايد السبسي في جعل العائلة الدستورية ركيزة اساسية في تحقيق المشروع الوطني الديمقراطي هو الاسلم والاصوب والاكثر تجسيدا للمصلحة الوطنية، في مواجهة خيار فاشي اقصائي قائم على نشر الاوهام يعمل على استغلال تراث العائلة استغلالا بشعا يدفع الى تعميق الانقسام بين التونسيين من جديد ويستثمر في الحقد والكراهية.
*المدير التنفيذي لنداء تونس والوزير السابق
Comments