فرنسا اليوم .. “الآلة الجهنميّة”، بقلم سارج حاليمي
سارج حليمي
في العدد الأخير من “لوموند ديبلوماتيك” ( شهر نوفمبر 2020) كتب رئيس التحرير سارج حاليمي عن الظرف الذي تعرفه فرنسا اليوم، بعد تصاعد ضربات الفيروس التّاجي ( كورونا ) الذي وصل حد الأمر بالحكومة إلى إعلان الحجر الصحيّ الشامل.
في تزامن مع عودة الهجمات الإرهابيّة الشنيعة، التي لا مبرّر لها إلاّ التطرّف الأعمى والهمجيّة، منها مقتل مدرّس التاريخ ثمّ هجوم “تريب” الإرهابي في متجر غرب فرنسا الذي جدّ يوم الجمعة، والذي تبنّاه تنظيم الدّولة الإرهابي. وكان منفذّه شاب في الخامسة والعشرين من العمر، معروف لدى السلط الأمنية بصلاته بعناصر إسلامية متطرّفة.
وبين هذين الحدثين كان خطاب الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” حول ما يعانيه الإسلام من تراجع وعزلة ليحوّله الانفعال التدينيّ خارج فرنسا إلى مدرج لشنّ حملات التنديد و المحاصرة الاقتصادية و المواقف الدّيبلوماسية والبيانات السياسية إلى مواجهة عالمية لفرنسا،
في الوقت الذي يعيش فيه الملايين من العرب والمسلمين الذين هجرّتهم بلدانهم وحكوماتهم بسبب الفقر أو البطالة أو التهميش…
ولكنّ السكوت عن الإرهاب الأعمى وقتل الأبرياء و الانخراط القطيعي في حملات التطبيل و التجريم تحت عنوان الدّفاع عن الرسول عليه السلام أو الدّفاع عن الذّات الالاهية هو فعلا تأكيد لمصداقية خطاب الرئيس الفرنسي على هزال هذا الإسلام وهذا الرّهط من المسلمين. فليس اللّه ولا رسوله في حاجة لأصواتكم ولا حناجركم ولا سواعدكم ولا بهتانكم.. يقول الله تعالى(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
يشير حليمي الى أن المجتمع الفرنسيّ اليوم يواجه بالفعل مخاوف صحيّة وبيئية واقتصادية واجتماعيةـ وهو يتلقى المزيد من الضّربات على شاكلة هجمات إرهابيّة، كأنّ أصحابها يريدون جرّها إلى “الحرب”.
ولكن، نظرا إلى أن العدوّ غالبا ما يكون مقنّعا، لا يُسفر عن وجه وهو غير قابل للكشف، فإنّ القضاء عليه يتطلّب ترسانة أقوى من سابقتها. ليست بالمدافع والمظليين هذه المرّة، ولكن بهجمات إضافيّة على الحريّات العامّة. فمن يجرؤ اليوم بالفعل على الدّفاع عن هؤلاء بعد الهجوم الأخير وأثناء وباء عاصف؟ لهذا يتمّ فرض القيود وتقبّلها دون نقاش.
قيل لنا: إنّ هذا مجرّد قوس فتحناه وسنغلقه حالما ينتهي الفيروس التّاجي أو الإرهابي المتعصّب، ونعود بعدها إلى أيّام السّعادة والهناء. ولكنّ الأيّام السعيدة لا تعود. ويمكن للمجتمع في ظلّ هذا النّظام السياسيّ أن يتصدّع.
إذا حاولنا فهم هذا الإجراء في سياق الأحداث الإرهابية، فإنّ إسلاميا متعصّبا قام بناء على شهادة زور نقلتها وسائل التّواصل الاجتماعي، بقطع رأس مدرّس لم يكن يعرفه، قد صدمت شعبا بأسره وأذهلته.
وهذا الإرهابي شيشاني ليست له علاقة وثيقة بمنظمة إرهابيّة، وربّما معه عدد قليل من المتواطئين، وأمّا الدّعم لهؤلاء فشبه معدوم في البلاد: بمعنى آخر كان اغتيال صمويل باتي شبيها بالمأساة لا يمكن أن يكون سببها إلاّ الجنون.
لكنّ هذه الجريمة تأتي في سياق قصّة تتخللها أعمال إرهابية إسلامية تربط بينها أسماء: سلمان رشدي، أحداث 11 سبتمبر، بالي، مدريد، محمد ميراه، شارلي، باتاكلان، نيس……
الكثير من الهجمات الدّموية أو تهديدات بالقتل تستهدف الكتّاب واليهود ورسّامي الكاريكاتور والمسيحيين وكذلك المسلمين.
لذلك يمكننا قياس عدم مسؤولية أولئك الذين تغلّبوا بسرعة، ما إن يتمّ الكشف عن عملية قطع رأس أحد الضّحايا، على عواطفهم ليعلنوا خطأ أنّه في مسائل المراقبة والقمع “لم نقم بشيء يُذكر طيلة ثلاثين عاما”.
ثمّ يطالبون الدّولة باتّخاذ إجراءات استثنائية بحقّ المسلمين والمهاجرين. لذلك يتحدّث اليمين عن تعديل الدّستور. ووزير الدّاخلية في حالة قلق بشأن “رفوف المطبخ المجتمعي” في محلاّت السّوبر ماركت.
ويطالب الصحفيون بإسكات مجلس الدّولة والمجلس الدّستوريّ ومحكمة العدل الأوروبيّة حتّى لا يعيق عائق الأوامر الإدارية التعسّفيّة والسّجن بدافع بسيط من الشرطة. ويضيفون أنّه يجب علينا حظر خطاب الكراهية على الشبكات الاجتماعية دون أن نلاحظ أنّها تنتشر بالقدر نفسه من الجسامة حتّى على القنوات الإخبارية المستمرّة في البثّ.
كان من الممكن أن يؤدّي رعب الجريمة وهولها إلى دعم جماعي من السّكان للمعلّمين الّذين قلّلت الحكومات المتعاقبة من شأنهم مادّيا وأخضعت أدوارهم للتعديل المتغيّر للميزانية، وسلّمتهم لضغوط أولياء التلاميذ الأقل اهتماما بظروف عمل هؤلاء ولا بالمحتوى الذي يقدّمونه.
وبدلا من ذلك ظهرت رائحة صدام الحضارات مرّة أخرى. وهو صراع سيكون قادرا على زيادة تقسيم شرائح المجتمع الفرنسي الذين يتمّ تركهم لمصيرهم بشكل ممنهج – وليس الأصوليون المسلمون أو اليمين المتطرف فحسل – إلى مجتمعهم، إلى عائلاتهم إلى إلههم. ونحن لم نقم بأيّ شيء للتصدّي لهذه الآلة الجهنمية منذ ثلاثين عاما.
ملاحظة:
كتب هذا المقال قبل حصول الجريمة الارهابية، التي أستهدفت الخميس 29 أكتوبر 2020، مقتل ثلاثة فرنسيين في كنيسة بمدينة “نيس” الفرنسية، جنوب فرنسا.
Comments