فرنسا تنتفض على "رئيس الأغنياء"
كتب من باريس: غازي معلى
ذوو “السترات الصفر”، الذين ينتفضون على إيمانويل ماكرون، هم أنفسهم من أوصله إلى الرئاسة، قبل 18 شهراً. الفارق الوحيد، أن هؤلاء الذين يحتلون جادات المدن الفرنسية، وأبرز معالمها ويرغمون السلطات على إقفال طوعي لبرج إيفل، لم يكونوا يرتدون “السترات الصفر”، بل ذهبوا في أيار 2017 إلى صناديق الاقتراع لينتقموا من أحزابهم التقليدية، من يمين ويسار ، ويختاروا ماكرون الآتي باسم التغيير.
من حسن حظه أن منافسته كانت يومها مارين لوبن الشعبوية اليمينية المتطرفة، الأمر الذي حمل فرنسيين كثيرين على الهرولة للاقتراع، مخافة تكرار تجربة دونالد ترامب في الولايات المتحدة.
فالعالم لا يتحمل مزيداً من التهور والمغامرات والارتجال وضيق الأفق والتعصب القومي والديني والعرقي، وتشييد الجدران السياسية والاقتصادية. السؤال اليوم هو التالي: هل كان ماكرون على قدر الآمال التي علقها الفرنسيون عليه؟
الجواب يهدر منذ شهر في الشوارع، وحتى من قبل ظهرت بوادر لتجمع حراك اجتماعي لا بد أن ينفجر في لحظة ما في وجه الرئيس، الذي لم يصغِ الى استطلاعات الرأي التي كانت ترسل إليه الإشارة تلو الإشارة، بأن الشارع غير راضِ عن أدائه الاقتصادي، الذي يتجه إلى تحميل الطبقتين الفقيرة والمتوسطة عبء الإصلاحات الاقتصادية، التي يزمع تنفيذها والتي حصل على موافقة غالبيته البرلمانية عليها.
ولم يتنبه ماكرون لخطورة أن يلقبه كثير من الفرنسيين “رئيس الأغنياء”، فذهب بعيداً في تقدير قوته على فرض الإصلاحات، ربما مراهناً على أن هدير الشارع لن يكون إلاّ فورة ثم تهدأ، ويمضي هو في برنامجه الإصلاحي.
ولعل ماكرون استشعر ثقة بالنفس زائدة عن الحد، عندما وجد هذا الدلال من المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، التي كانت من أشد مؤيديه على الساحة الأوروبية، خصوصاً انه بعد قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، لم يكن أمام المانيا سوى تمتين العلاقات مع باريس، بغية الحفاظ على المشروع الأوروبي والوقوف في مواجهة صلف ترامب.
ترامب الذي لا يفوت فرصة الا ويذكر الأوروبيين بأن أميركا هي التي تحميهم من روسيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وأنه بات عليهم الآن أن يدفعوا ثمن هذه الحماية ولو بمفعول رجعي.
التحالف مع ميركل كان طبيعياً في فترة التوتر مع اميركا، وكذلك الدعوات الالمانية والفرنسية إلى إنشاء جيش أوروبي خاص، في تلويح ضمني لأميركا بانه يمكن الاستغناء عن حمايتها وذراعها المتمثلة بحلف شمال الأطلسي.
في عالم يقوده ترامب وفريقه الشعبوي، تقرر ميركل الاعتزال بعد انتهاء ولايتها الحالية، ويتخبط ماكرون في مواجهة الشارع الغاضب على سياساته الاقتصادية، مما يضطره إلى التراجع والبحث عن بدائل. وفي خضم الاضطراب الفرنسي والأوروبي عموماً، تتعولم الأزمات وتعبر الحدود، ولا تحد منها قط تغريدات يطلقها ترامب عن صحة قراره الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ.
الشارع الفرنسي كان أكثر جرأة من ساسته ونقاباته، إنه يستعيد حس التمرد والاعتراض الذي غاب عنه ربما منذ عام 1968.
Comments