فرنسا و "الخندق" المالي !
بقلم: محمد بشير ساسي
يجمع عديد المراقبين بأن الجيش الفرنسي بات يقف على أرض متحركة تصعّب من مهمته العسكرية التي يخوضها في وحل مالي والساحل حيث تشير كلّ الحقائق الميدانية في ذلك الجزء من القارة السمراء أن هناك الكثير من الشكوك داخل القوات الفرنسية بشأن قدرتها على معالجة الوضع الأمني.
ومما لا شك فيه أنّ حادث تصادم مروحيتين فرنسيتين في مالي والذي ذهب ضحيته 13 جنديا خلال عملية عسكرية ليلية ضد من تقول فرنسا إنهم جهاديون في جنوب مالي، أجبر وسائل الإعلام الفرنسي على طرح تساؤلات مشتركة: ما الذي تفعله فرنسا في مالي؟ وماذا تحقق بعد سبع سنوات في منطقة ما تزال ترزح تحت وطأة التهديدات والفوضى الأمنية؟
الإجابة بالإجماع تقريبا وبلغة الأرقام 41 قتيلا في صفوف القوات الفرنسية منذ بدء التدخل مع عملية سرفال عام 2013، ثم تلتها بعد عام تقريبا عملية “برخان” بحسب تعداد أُجري انطلاقا من أرقام نشرتها رئاسة الأركان الفرنسية.
فانتشار حوالي 4500 عسكري فرنسي في منطقة الساحل التي تمتدّ على مساحة توازي مساحة أوروبا، كان يُعتقد أن يحقّق الأهداف المرجوة في دعم الجيوش الحكومية التي تحارب التنظيمات الجهادية
غير أن التفاؤل بدا مفرطا للغاية وفق ما أقر به رئيس أركان القوات المسلحة فرانسوا ليكوينتر، الذي أكد على أنه كان هناك تصور في عام 2013 أن كل شيء سيتم حله، وأن النصر على الجهاديين سيكون سريعا وسوف يترجم على الفور إلى نجاح سياسي، أما اليوم فشروط زعزعة الاستقرار في المنطقة مجتمعة.
و أمام هذا المشهد ثمة من يعتقد من الباحثين أن التهديد قد لا يكون تم تقديره حق قدره، خاصة أن هذه ليست حربا أيديولوجية كما يتوهم البعض، لأن البلدان التي تدور فيها فقيرة للغاية، وبالتالي ينضم البعض إلى صفوف الجهاديين بدوافع متنوعة للغاية، كالحصول على دخل لتلبية احتياجات الأسرة،
كما أن هذا التدخل لا يخضع لجدول زمني محدّد، وأهدافه لا تزال غامضة للغاية، هذا فضلا عن غياب أيّ خريطة طريق لهذه العملية، إذ لا يعرف أحد متى سيتم نقل الصلاحيات من فرنسا إلى الدول الأفريقية، وهل سيتم ذلك أصلا
وفي هذا السياق، فإن الاستياء المناهض للفرنسيين يجب أن يؤخذ في الاعتبار، خاصة أن أي جيش يبقى لفترة طويلة في بلد ما ينتهي به المطاف كقوة احتلال.
لكن يبدو أن “فرنسا الإستعمارية” كما يصفها كثيرون في الداخل والخارج والتي تسوق لنفسها أنها شريك أساسي لبناء السلام ما تزال تصر على تجاهل الرسائل الآتية من منطقة الساحل، التي عرّت تلك المعالجة الأمنية المضطربة.
فبعد دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زعماء مالي والنيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا وتشاد إلى فرنسا في 16 ديسمبر/كانون الأول لتوضيح موقفهم من العملية العسكرية بمنطقة الساحل خلال مؤتمر صحفي على هامش قمة دول حلف شمال الأطلسي في لندن،
عاد الإليزيه ليعلن أنّ ماكرون أرجأ تلك القمة المصغرة بالاتّفاق مع نظيره النيجري محمدو إيسوفو إلى مطلع العام 2020، غداة هجوم استهدف معسكرا في إيناتيس غرب النيجر، أسفر عن مقتل أكثر من 70 عسكريا، وهي الحصيلة الأكثر دموية في صفوف الجيش النيجري منذ بدء الهجمات في البلاد العام 2015.
أما المعظلة القديمة الجديدة برأي المراقبين فقد عبر عنها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش حين انتقد بطء إجراءات نشر القوات العسكرية المشتركة لدول الساحل الأفريقي الخمس والتحديات التي تواجه هذه القوة التي يراد منها ملء فراغ سيخلفه انسحاب قوات “عملية برخان” الفرنسية، التي تلقت ضربات موجعة على المستويين المادي والمعنوي.
ففرنسا التي تتولى هندسة إنشاء القوة الأفريقية الجديدة التي ستضم خمسة آلاف جندي من الدول الخمس الأعضاء: موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو، تسعى للبحث لها عن تمويل ودعم لوجستي يحفزان الدول الأعضاء على النزول إلى الميدان.
بيد أن القارئ الجديد لما يعيشه ذلك الجزء المبعثر من القارة الإفريقية يرصد حجم الدراما الحقيقية في منطقة الساحل التي لها يراد لها أن تظل مطموسة ومنسية، فالحقائق التي تريد لها السلطات المحلية والإقليمية والقوات الدولية أن تظل محجوبة لا يمكن الحديث عنها إلا في الاجتماعات الخاصة وقمم تقاسم غنيمة الثروات المنهوبة.
حتى أنّ أحد الكتاب في الشأن الإفريقي ذهب إلى التأكيد أن دول الساحل لا تحتاج لإرسال مزيد من الجيوش إليها أو بناء المزيد من القواعد العسكرية الغربية على أراضيها بقدر ما تحتاج إستراتيجية مشتركة، محليا وإقليميا تهتم بحل مشاكلها السياسية والأمنية والاقتصادية
فحسب اعتقاد عبد القادر عبد الرحمن أن دوافع الدول الغربية المعلنة لهذا الانتشار العسكري في مالي والدول المجاورة لها هي مكافحة الإرهاب، ومراقبة الهجرة الأفريقية إلى أوروبا، والحفاظ على استقرار هذه الدول ومكافحة الاتجار بالمخدرات، لكن في الواقع هي من تسهر على نشر “الفوضى الخلاقة” ضمن كتلة جغرافية موبوءة بكل منغّصات العيش الكريم لدرجة أنه لا يمكن لأحد أن يتنبأ بمآلات ما ستنبت تلك الأرض الساخنة بالعنف.
*إعلامي تونسي
Comments