فرنسا و اللعب بالنار في النيجر .. هل تغرق باريس في مستنقع “الساحل والصحراء” ؟
يدرك الفرنسيون، قبل غيرهم أن بلادهم هي الخاسر الكبير، مما يجري في مستعمراتها القديمة، وخاصة في دول الساحل والصحراء الافريقية، ولعل آخر تساقط حبات العقد، تأتي من دولة النيجر التي تعد اخر معاقل باريس في المنطقة، بعد حصول انقلاب على الرئيس الموالي لفرنسا ، تحرك يبدوا أنه فاجأ حكام فرنسا و أجهزتها الاستخباراتية، لتجد باريس نفسها تقف عاجزة أمام ما يحصل هناك وكل السيناريوهات سيئة أمامها بل قد تجرفها نحو المحظور حد “الغرق”، وهو ما حذر منه عدد من قادة الرأي والسياسة في باريس، على غرار الكاتب والجيوسياسي الفرنسي، رينو جيرارالذي نصح في مقال بجريد “لوموند” حكومة بلاده بعدم التورط في النيجر، من حلال المجازفة أو “المقامرة” ب “الحل العسكري”.
تجد اليوم، العاصمة الاستعمارية القديمة، نفسها في مواجهة “مأزق” ، لو تم نهائيا فان سينهي وجودها ومصالحها الاستراتيجية في القارة السمراء، التي تحولت الى مجال صراع كبير بين الأمم، سواء التقليدية منها – الروس والأمريكان – أو الصاعدة – الصين وتركيا وايران وحتى بعض الدول الخليجية…- .
فهل “تغامر” باريس بالتدخل العسكري لاستعادة نفوذها الذي هو بصدد التحول الى سراب؟ و هل أن فرضية الحل العسكري – ترتقي للجنون – و بالتالي يمكن أن تسقط باريس في وحل لن تخرج منه متعافية ؟
التدخل العسكري سيكون جنونا
تحت عنوان: “التدخل العسكري الفرنسي في النيجر سيكون جنونا مطلقاً” (1)، قال الجيوسياسي الفرنسي والكاتب في صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، في مقال رأيه بالصحيفة، إن عدة تصريحات للحكومة الفرنسية في الأيام الأخيرة لمّحت إلى أن باريس قد تتدخل عسكريًا في النيجر من أجل إعادة النظام الدستوري هناك، بعد الانقلاب العسكري يوم 26 يوليو الماضي الذي أدى إلى الإطاحة بالرئيس الموالي لباريس محمد بازوم، الذي تم انتخابه بالاقتراع العام في شهر أفريل عام 2021، بنسبة 55% من الأصوات في الجولة الثانية.
منذ الاطاحة بالرئيس بازوم، تخضع هذه الدولة الهامة في منطقة الساحل، التي تبلغ مساحتها ضعفين ونصف مساحة فرنسا ويسكنها 25 مليون نسمة تحت حكم مجلس عسكري من الجنرالات اختار لنفسه اسم المجلس الوطني لحماية الوطن (CNSP). وقد قام هذا الأخير بتعيين رئيس وزراء تكنوقراط على رأس حكومة من 21 وزيراً. و تم تسليم حقيبتي الدفاع والداخلية للجنرالات الذين كانوا أعضاء في المجلس العسكري.
و قال رينو جيرار في صحيفة لوفيغارو إنه سيكون من الحماقة أن تتدخل فرنسا عسكريًا في النيجر لاستعادة النظام الدستوري، حتى لو كان ذلك لدعم المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، معتبرا أن أي حرب بين البلدان الأفريقية ستؤدي إلى حمام دم، دون أن يكون هناك أدنى ضمان بأنها ستحسن من أوضاع النيجيريين على المدى المتوسط. وفي النهاية، ستعتبر فرنسا وحدها المسؤولة عن هذه الكارثة الإنسانية. واعتبر رينو جيرار أن استخدام فرنسا، باسم المُثل الديمقراطية، لـقوتها الصارمة” ضد ليبيا القذافي أدى إلى خلق كارثة إقليمية، كما أن جميع الحملات الغربية للتدخل في العالم العربي الإسلامي باسم الديمقراطية، في العقدين الماضيين، انتهت بكارثة.
نعم للدفاع عن الديمقراطية لا للتدخل العسكري
وأوضح رينو جيرار أن النيجر دولة مستقلة منذ ثلاثة وستين عامًا، بعد أن قررت فرنسا الرئيس ديغول بحرية إنهاء استعمارها. لم يعد الأمر متروكًا لفرنسا لتقرير من يجب أن يحكم النيجر. ومصير النيجر السياسي يخص النيجيريين أنفسهم وليس لأحد غيرهم. ثقافيًا، لدى فرنسا كل الحق في الدفاع عن مبادئها الديمقراطية الجيدة. عسكريا، لا يمكن لفرنسا أن تطبق الأمور بالقوة على أي شخص آخر غير الفرنسيين.
والتدخل هو العودة عبر نافذة الدافع الاستعماري، يقول الكاتب، موضحاً أن التدخلات العسكرية الغربية تتم دائمًا باسم أفضل المشاعر في العالم. ففي كابول، بالنسبة لحلف الناتو، كان الأمر يتعلق بـ”إعادة بناء أفغانستان وإضفاء الطابع الديمقراطي عليها وتطويرها”، كما أكد ذلك مؤتمر بون في يوم الخامس ديسمبر عام 2001. في عام 2021، نظرًا لفشلها واستمرار اللعبة لفترة طويلة بما فيه الكفاية، أعادت أمريكا إلى طالبان السلطة التي انتزعتها منهم بالقوة قبل عشرين عامًا. إنه أمر سيئ للغاية بالنسبة لآمال الديمقراطية التي أثارتها بين الشباب المتعلم في المدن الأفغانية الكبرى.
في بغداد، في عام 2003، كان على الأنجلو ساكسون الإطاحة بطاغية يُزعم أنه يمتلك أسلحة دمار شامل وتنصيب ديمقراطية في العراق تشكل نموذجًا في العالم العربي الإسلامي بأسره، وفق الكاتب، مشيرا إلى أن الاقتراع الحر الذي فرضه المحتل الأمريكي أدى إلى زيادة الانقسامات العرقية في البلاد، والتي سرعان ما انزلقت في حرب أهلية مروعة.
التورط الفرنسي في افريقيا .. البداية من ليبيا
في عام 2011، لبدء حراك “الربيع العربي الديمقراطي” في شمال إفريقيا والشام، بادر الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي للإطاحة بالقوة بنظام القذافي الديكتاتوري في ليبيا، على حد تعبير رينو جيرار، معتبراً أن ساركوزي ارتكب بذلك دون أن يُريد أو يَعرف أخطر خطأ في السياسة الخارجية للجمهورية الخامسة الفرنسية بأكملها.. فسرعان ما أثبت المعارضة الليبية التي استقبل قادتها في الإليزيه أنها غير قادة تمامًا على الحكم. غرقت البلاد في الفوضى، وانتشرت الأسلحة المنهوبة من ترسانات القذافي في جميع أنحاء المنطقة، الأمر الذي ألقى بثقله على الدول المجاورة متسبباً في زعزعت استقرار حزام دول الساحل، التي كان حكمها وقتها يعدون أصدقاء جيدين لفرنسا.
في عام 2013، دخلت فرنسا في حرب ثانية في مالي من أجل إصلاح الأضرار التي لحقت بالحرب الأولى. لكن بما أنها لم تنجح في استعادة السلام في منطقة الساحل، بحوالي 5 آلاف جندي، على مساحة تزيد عن 5 ملايين كيلومتر مربع، بدأ سكان الساحل في البداية يشّكون في فرنسا، ثم يعبرون بصوت عالٍ عن إحباطهم، واليوم رفضهم لوجودها في المنطقة.
وأوضح رينو جيرار أن استخدام فرنسا، باسم المُثل الديمقراطية، لـ”قوتها الصارمة” ضد ليبيا القذافي أدى إلى خلق كارثة إقليمية. كما أن جميع الحملات الغربية للتدخل في العالم العربي الإسلامي باسم الديمقراطية، في العقدين الماضيين، انتهت بكارثة. فالغربيون يكرهون الديكتاتورية السياسية، لكنهم لم يفهموا أنه بالنسبة للأمة الإفريقية، كان هناك أسوأ بكثير من الديكتاتورية، وهو الفوضى أو ما هو أسوأ منها: الحرب الأهلية.
فشل التدخل الغربي لنشر “الديمقراطية”
وتساءل الكاتب إن كان الفرنسيون مستعدين أن يضمنوا لشعب النيجر أن يكون وضعهم بعد تدخل باريس العسكري أفضل من ذي قبل؟ هل سيبقى الفرنسيون في النيجر ما دامت هناك حاجة لإرساء السلام والحكم الرشيد هناك؟. وهل يضمن الفرنسيون ألا يفعلوا مثل الأمريكيين في كابول وألا يذهبوا على وقع فشل مدوي.
وشدد رينو جيرار أنه على الفرنسيين مواجهة الحقائق، قائلاً: “يجب أن نواجه الحقائق: لم تعد لدينا الوسائل، لا سياسية ولا أخلاقية ولا دبلوماسية ولا بشرية ولا عسكرية ولا مالية، للانطلاق في حملات عسكرية من النوع الاستعماري بهدف فرض قانون رؤيتنا على مسافة بعيدة جدًا من أراضي بلدنا. بما أننا لا نستطيع تحمل البقاء حتى يأتي النجاح، فمن الأهمية بمكان أن نمتنع عن التدخل، ينصح الكاتب والجيوسياسي الفرنسي حكومة بلاده.
كما تطرقت صحيفة “لوموند” الفرنسية الى أن الدبلوماسية الأمريكية أكثر ليونة اتجاه ما يحدث في النيجر وهي أقل استهدافا من قبل الانقلابيين الذين يستخدمون خطابا معاديا لباريس من أجل كسب المزيد من الدعم والتعاطف الشعبي، ويرى مايكل شوركين، المختص في الشؤون الافريقية أن فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية تتقاسمان نفس الرؤية في مسألة احتواء انتشار الجماعات الجهادية في منطقة الساحل، لكن فيما يتعلق بالإنقلابات، في واشنطن هناك من يرى أن الأولوية تكمن في الدفاع عن قيم الديمقراطية وهناك من يعتبر أن استخدام القوة ضد الانقلابيين غير مجد ،لكن الأغلبية تعتبر أنه من الضروري ترك قناة للتواصل والحوار مع الإنقلابيين تماما مثلما حدث مع المجلس العسكري في مالي ،حتى لو كان ثمن ذلك أن تنأى واشنطن بنفسها عن باريس ،يقول مايكل شوركين (2).
هوامش
1/
Renaud Girard: «Une intervention militaire française au Niger serait une pure folie»
2/
AU NIGER, LA JUNTE JOUE LA DIVISION ENTRE LA FRANCE ET LES ETATS-UNIS
Comments