في الذكرى الأولى لرحيله: رضا بلحاج يكتب عن “الباجي قايد السبسي .. التجربة والدروس”
رضا بلحاج*
غالبا ما تفرض ” الكتابة الاحتفالية ” صعوبات إضافية على من يريد التفاعل مع المناسبات المرتبطة بأحداث وطنية أو دولية أو بشخصيات تركت بصمتها في مجال اشتغالها. و لا شك أن الصعوبة تزداد حين يتعلق الأمر بشخصية في حجم و حضور و إسهام المرحوم الباجي قايد السبسي الذي نتأهب لاحياء مرور سنة على وفاته، يوم السبت 25 جويلية الجاري، وبهذه المناسبة نخصص في موقع “التونسيون”، ملف حول الرئيس الراحل والزعيم الوطني، والرجل الذي ارتبط اسمه عضويا بمسار الانتقال الديمقراطي، الذي انطلق بعد ثورة 14 جانفي 2011، وننشر في ما يلي مقال للقيادي والمؤسس لحركة “نداء تونس”، رضا بلحاج ، الذي رافق “سي الباجي”، في القصبة ( حينما شغل الراحل مهام الوزير الأول)، وكان معه في تأسيس النداء، كما رافقه وهو رئيسا للجمهورية في خطة الوزير مدير الديوان الرئاسي.
لقد طبع الباجي قائد السبسي العشرية الحالية ببصمته و يتأكد من خلال المقارنات التي أخذت تظهر أن الباجي قائد السبسي قد غاب “جسديا ” و لكن أثره يزداد حضورا. و في تقديري فإنه يمكن الحديث عن إسهام المرحوم الباجي قائد السبسي في مسار الانتقال الديمقراطي من خلال الملاحظات التالية:
أولا: الباجي قائد السبسي على رأس الدولة:
تسلم الباجي قائد السبسي مقاليد السلطة بعد الثورة في مناسبتين كانت الأولى في أواخر فيفري 2011 حين دعي لخلافة محمد الغنوشي و لم يكن الباجي قائد السبسي يستند إلى شرعية انتخابية و تسلمها في المرة الثانية عقب فوزه في الإنتخابات الرئاسية لاكتوبر 2014 و التي تمتع فيها بشرعية انتخابية كرستها نتائج الإنتخابات و أيضا مسارها الذي كان خاليا من الطعون و الاخلالات.
– الباجي قائد السبسي و شرعية الأداء : يمكن القول و دون خشية الابتعاد عن الموضوعية أنه لم يكن من اليسير أن يتمكن أي رجل سياسة من تحقيق ما حققه الباجي قائد السبسي سنة 2011. لا ننكر قبل التطرق لما حققه الباجي قائد السبسي خلال مروره بقصر الحكومة بالقصبة الدور الذي لعبه محمد الغنوشي في تأمين إنتقال السلطة بعد رحيل رئيس الجمهورية الأسبق زين العابدين بن علي دون الوقوع في فراغ على مستوى مؤسسات الدولة أو الوقوع في تناقض مع التوجه الثوري.
لكن دور الباجي قائد السبسي كان محوريا في صيانة مكاسب الثورة و تحقيق الانتقال الديمقراطي. كانت واقعية الباجي قائد السبسي أحد العوامل التي ساعدته على النجاح و قد امتزجت بخصاله كرجل سياسة ديمقراطي. ذلك أن واقعيته جعلته يتعامل مع مطالب الثورة حتى و إن كان أحيانا مختلفا مع مضامينها إذ لم يكن موافقا على التمشي التأسيسي و على القطع نهائيا مع دستور 1959.
لكن وجود إتجاه عام يدفع نحو تنظيم إنتخابات مجلس وطني تأسيسي جعله يقبل بهذا المعطى كواقع سياسي لا يمكن تخطيه و يساهم في الإعداد الجيد لهذا الموعد. و قد تفاعل بنفس الطريقة مع مسألة الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة و الانتقال الديمقراطي و الإصلاح السياسي إذ تعامل معها رغم أنه لم يكن مؤمنا بها.
لم يكن الباجي قائد السبسي يخفي مواقفه و آرائه و كان يعبر عنها بكامل الوضوح و الصراحة لكنه كان ينسجم في نهاية الأمر مع التوجه العام.
و كان الباجي قائد السبسي حين تولى رئاسة الحكومة واقعيا في تسيير دواليب الدولة إذ اعتمد مبدأ الحوار مع كل الأطراف السياسية من شكري بلعيد إلى راشد الغنوشي مرورا بحمة الهمامي و نجيب الشابي و اعتمد نفس الطريقة مع المنظمات الوطنية و لم يستثن من الحوار حتى الشخصيات التي اعتمدت ضده تصريحات متشنجة.
هذه الواقعية في السياسة الداخلية مكنته من أن يحقق استقرارا سياسيا لافتا بالنظر إلى ما ميز الوضع العام اللاحق للثورة من التوتر الشديد في المجتمع و في تسيير الإدارة و المرفق العام.
و من عوامل نجاح الباجي قائد السبسي خلال توليه رئاسة الحكومة و من مظاهر واقعيته محافظته تقريبا على أغلب عناصر الفريق الحكومي المتميز الذي تركه سلفه محمد الغنوشي و هو ما جعله يدخل الاطمئنان في نفوس إطارات الدولة فاعطوا كل ما يملكون من طاقة و معرفة و خبرة لانجاح المرحلة الدقيقة التي كانت تمر بها تونس.
و قد تجلت واقعية الباجي قائد السبسي بشكل واضح في السياسة الخارجية و الدولية رغم صعوبة الظرف الذي لعل من أبرز ملامحه التأثيرات و التداعيات السلبية للثورة الليبية على بلادنا سواء على المستوى العسكري أو على المستوى الإنساني الذي تجسد أساسا في توافد عشرات الآلاف من الليبيين على تونس.
و لم ينس الباجي قائد السبسي رغم تعدد المهام أن يخصص وقتا هاما لزيادة إشعاع الثورة التونسية عبر تنقلاته المتعددة لزيارة الدول و خاصة المشاركة في كل القمم ذات البعد العالمي المتميز و هو ما ساهم في جلب دعم و تعاطف ضروريين للثورة التونسية.
أما الجانب الثاني المهم في تمشي الباجي قائد السبسي أثناء توليه رئاسة الحكومة فقد تمثل في طغيان الجانب الديمقراطي إذ يعود الفضل في تنظيم أول إنتخابات ديمقراطية و وشفافة في تاريخ تونس إلى ما أبداه من حرص و إصرار على ذلك لأن الجميع يذكر المصاعب التي اعترضت تنظيم إنتخابات المجلس الوطني التأسيسي سواء تعلق الأمر بالصعوبات الأمنية أو بعدم جاهزية الإدارة و كذلك الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
لكن ذلك لم يفل من عزم الرجل على تنظيم الإنتخابات في وقتها المحدد و تجلى الوعي الديمقراطي للباجي قائد السبسي أيضا في حرصه على تسليم السلطة سريعا بعد هذه الإنتخابات رغم أنه لم يكن مرتاحا لنتائجها و لا متفقا مع التوجه الاغلبي الذي أفرزته.
لا يجب أن يفوتنا و نحن نتوقف في عرض سريع عند أهم ما ميز مرور الباجي قائد السبسي بقصر الحكومة بالقصبة الجانب الإصلاحي الذي تجلى في الإجراءات الإصلاحية التي قام بها الرجل و هي إجراءات عديدة و هامة شملت الحريات العامة من خلال مراسيم الأحزاب السياسية و الجمعيات و الإعلام و الصحافة و أيضا مجال حرية المرأة إذ حرص و تمكن من جعل تونس ترفع التحفظات التي كانت لها على بعض بنود إتفاقية سيداو.
ب .الباجي قائد السبسي و الشرعية الإنتخابية: لا شك أنه ليس من اليسير الوقوف عند دلالات و أهمية فوز الباجي قائد السبسي بالانتخابات الرئاسية لاكتوبر 2014 و ما لعبه هذا الفوز من دور إيجابي في مسار الأحداث و الانتقال الديمقراطي.
خاض الباجي قائد السبسي هذه الإنتخابات متسلحا بإرادة إنقاذ الدولة الوطنية و هو ما منحه بعدا إضافيا يتمثل في شرعية أنه وريث شرعية الزعيم الحبيب بورقيبة و امتداده السياسي فدخل قصر الجمهورية بقرطاج محاطا بدعم شعبي واسع و كبير و هو ما منحه فرصة القيام بدوره كرجل دولة إلى جانب مواصلة رعاية التجربة الديمقراطية التونسية الناشئة و العمل على تطويرها فاحترم أحكام الدستور رغم وعيه بمحدودية صلاحياته التي ظل حريصا على الاضطلاع بها حتى بعد محاولات تهميش دوره و عزله سياسيا.
- الباجي قائد السبسي يمارس صلاحياته الدستورية و يلعب دورا سياسيا
يمكن تقسيم العهدة الرئاسية للباجي قائد السبسي إلى مرحلتين و هما – المرحلة الأولى من تنصيبه إلى إطلاق مشاورات ” قرطاج 2″ و قد تميزت هذه المرحلة بممارسة الباجي قائد السبسي لكامل صلاحياته الدستورية و السياسية و هو ما مكنه من قيادة العملية السياسية و من ضمان السير العادي للمؤسسات الدستورية و لحكومة السيد الحبيب الصيد التي حرص على أن تكون في تركيبتها الأولى دون حركة النهضة و لكنه قبل بعد أن فشل في ذلك بأن تكون لحركة النهضة مشاركة رمزية فيها.
و واصل الباجي قائد السبسي على الصعيد الخارجي خلال هذه الفترة العمل على تطوير إشعاع تونس الذي بدأه سنة 2011 .
أما المرحلة الثانية للعهدة الرئاسية للباجي قائد السبسي التي تلت فشل “قرطاج 2″ فقد شهدت تحالف حركة النهضة و يوسف الشاهد ضده . و قد شهدت هذه المرحلة تهميش دوره و بداية الشروع في عزله سياسيا. و العمل على الحد من صلاحياته و ” إرغامه” على القبول ببقاء يوسف الشاهد في الحكم وهو الذي انقلب عليه و شن حربا خفية ضده و ضد ما تبقى من حزبه.
كما توسع في المقابل دور حركة النهضة في الحكومة بشكل غير مسبوق. و رغم تقدمه في السن فقد أظهر الباجي قائد السبسي شجاعة لافتة في مصارعة خصومه(النهضة و يوسف الشاهد ) و استطاع رغم تقلص هامش مناورته أن يفشل مخططهما لاقتسام السلطة بعد إنتخابات 2019 برفضه الامضاء على مشروع قانون يهدف أساسا الى اقصاء احد المترشحين (نبيل القروي).
وجه الباجي قائد السبسي رسالة رمزية للمستقبل عندما تقدم بمشروع قانون للمساواة في الإرث رغم وعيه بصعوبة نجاح المبادرة في ظل ميزان القوى الموجود و الذي يميل لفائدة القوى المحافظة و التقليدية.
ثانيا: الباجي قائد السبسي زعيما لحركة “نداء تونس”
” أدرك الباجي قائد السبسي بحكم تجربته السياسية الكبيرة و من خلال قراءة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي أن الديمقراطية لا تقتصر على إنتخابات نزيهة لأن انتخابات تفرز انخراما في التوازن السياسي تخلق وضعا سياسيا هشا لا يسمح ببناء مسار ديمقراطي سليم و أن هذا المسار يكون محكوما بالضرورة بالانتكاس .
هذه القراءة جعلت الباجي قائد السبسي يقرر بعد مغادرته قصر الحكومة بالقصبة و قيامه بتحليل شامل لنتائج الإنتخابات و ما أفرزته من تشتت للعائلة الديمقراطية الوسطية يقرر التفكير في طريقة جمع شتات هذه العائلة و ينطلق فعليا في ذلك عبر العمل على بناء جبهة سياسية ديمقراطية و حين أدرك أن هذا المسعى لن يكلل بالنجاح قرر تأسيس حركة “نداء تونس.
” – الباجي قائد السبسي مؤسس “نداء تونس”
كما سبق و أسلفنا فإن فشل محاولة تجميع العائلة الوسطية الديمقراطية كان من بين الأسباب التي دفعت الباجي قائد السبسي للانصراف إلى تأسيس حركة نداء تونس محتفظا بالفكرة الأساسية التي تقف وراء التأسيس و هي تجميع القوى الوسطية الديمقراطية و هو ما منح حركة نداء تونس هويتها الوطنية ببعديها الإصلاحي و الحداثي.
و قد اعتمد الباجي قائد السبسي في استقطاب العناصر الفاعلة على فكرة أن يتشكل نداء تونس من أربعة روافد و هي الرافد الديمقراطي و الرافد النقابي و الرافد اليساري و الرافد الدستوري. هذه الفكرة التي تغري و توحي بتعايش هذه التيارات في حزب واحد كانت وراء دفع فئات كثيرة للالتحاق بحركة نداء تونس التي أصبحت في وقت قصير تمثل قوة تضاهي حركة النهضة.
و بما أن المسعى التجميعي هو الذي كان يحرك الباجي قائد السبسي فإنه واصل النقاش مع شخصيات و حساسيات و قوى سياسية أخرى في إطار ” الاتحاد من أجل تونس ” و هو ما ساعد على بروز قطب ديمقراطي واسع ساهم في قلب موازين القوى.
و لم يكتف الباجي قائد السبسي بهذا القدر من توحيد العائلة الديمقراطية إذ وسع بعد إغتيال شكري بلعيد و محمد البراهمي من انفتاحه و تحالف مع قوى اليسار و خصوصا الجبهة الشعبية و هو ما جعل القطب الديمقراطي يفرض مطالبه مع إنطلاق الحوار الوطني ليصل بنداء تونس إلى المرتبة الأولى في إنتخابات أكتوبر 2014 محققا بذلك أول نصر انتخابي على الإسلام السياسي في مستوى البلدان التي نظمت فيها إنتخابات شفافة و هو ما جعله يحقق الهدف الذي أسس من أجله “نداء تونس ” و هو توفير الشروط الموضوعية للتداول على السلطة.
و بالنظر إلى الحيز الزمني الضيق و تقدمه النسبي في السن فإن ما قام به الباجي قائد السبسي في أقل من سنتين من الزمن حتى وصل إلى هذه النتيجة يعتبر أمرا لافتا خاصة و أنه قد إستطاع من خلاله تغيير مشهد سياسي تنبأ البعض واثقين أنه سيتواصل على امتداد عقود.
الباجي قائد السبسي كمسير لحركة نداء تونس
لم يلعب الباجي قائد السبسي دورا في تسيير الشأن اليومي لحركة نداء تونس التي أسسها رغم أنه كان رئيسها إذ كان يفوض مسألة التسيير اليومي لبقية قيادات الحزب مكتفيا بالمتابعة عن بعد. و لكنه توقف عن هذا الدور عقب إنتخابات أكتوبر 2014 مفضلا الابتعاد كليا عن النداء رافضا التدخل بأية طريقة في شؤون النداء و هو ما شكل بداية أزمة النداء التي انعكست بدورها على الحكومة و على وضعية الرئيس نفسه.
فقد ترك ابتعاده عن متابعة الحياة الحزبية اليومية فراغا خاصة في مجال التقريب و الحسم بين وجهات النظر و الخلافات التي تتولد عنها و هو ما حولها إلى خلافات كانت السبب الرئيسي لانهيار الحزب و إلى كل التداعيات اللاحقة.
و يمكن تصنيف الخلافات بين قيادات حركة نداء تونس إلى صنفين:
– الصنف الأول مرده نقص الخبرة و التجربة السياسية و ما يتولد عنها من اندفاع و انخراط في معارك مغلوطة.
– الصنف الثاني وليد طموحات جارفة و الاستعداد المغلوط لانتخابات 2019 و التي قادت صاحبها يوسف الشاهد إلى ما وصل إليه من ارتباك سياسي و هذا لا ينفي أن أزمة النداء متعددة الجوانب و أن مسؤوليتها تعود بالدرجة الأولى إلى قيادات نداء تونس التي لم تستطع مساعدة الباجي قائد السبسي على النجاح في مهمته.
فعلاوة على الخلافات الداخلية وقع إجبار الحزب الرئيسي على مراجعة الحكومة الأولى التي شكلها الحبيب الصيد دون مشاركة النهضة و على التخلي عنه لاحقا و إختيار يوسف الشاهد و هي الضربة القاصمة التي تلقاها الرئيس الباجي قائد السبسي و حزبه.
و ما يمكن الإنتهاء به أن التاريخ سيحفظ للباجي قائد السبسي دوره في تكريس الديمقراطية في تونس بعد الثورة مكملا بذلك ما بدأه الرئيس الحبيب بورقيبة من تحقيق الإستقلال و بناء الدولة الوطنية.
Comments