في الذكرى التاسعة للثورة .. "شعب الثورة" مقابل "شعب الانتخابات" !
المهدي عبد الجواد
نظم الاتحاد العام التونسي للشغل ندوة فكرية بمناسبة الذكرى التاسعة للثورة. كانت ندوة مهمة في سياق التفكير في الثورة، نجاحاتها و مواضع التعثر فيها و فشلها. و قد حظيت مداخلة الأستاذ عياض بن عاشور باهتمام بالغ، لما يحظى به السيد العميد، داخليا و خارجيا، من حظوة و منزلة علمية و دستورية بل و سياسية أيضا، فالسيد عياض بن عاشور هو رئيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة و الانتقال الديمقراطي، و هي الهيئة التي سهرت و أشرفت على إطلاق المسار الانتقالي، فنجاحات الانتقال و فشله و تعثره تكمن في الأسباب التي وفرتها هيئة “بن عاشور”.
يفرّق بن عاشور بين أمرين مختلفين “شعب الثورة” مقابل “شعب الانتخابات”. و بقدرما تحققت بعض أهداف الانتخابات من ضمانات دستورية للحرية و للحقوق و ديمقراطية و تداول سلمي على السلطة، فان أهداف الثورة و شعبها ظلت تُراوح مكانها، من حيث عدم تحقق الكرامة. و لذلك جعل بن عاشور من الثورة نصف نجاح/نصف فشل.
وفي رده على السيد مصطفى كمال النابلي الذي اعتبر ان الفشل في تحقيق الكرامة هو التحدي الرئيسي الذي تواجهه تونس شعبا و نُخبا، أي أن الفشل يعود إلى “تلك الفجوة بين السياسي و الاقتصادي”، إذ ان كمال النابلي، جعل من التعثر في الممارسات السياسية و الفشل في ضبط السياسات المناسبة هي السبب في الفشل الاقتصادي و الاجتماعي.
و اعتبر النابلي أن “الأليات السياسية” أي الأحزاب و النظام السياسي و نظام الاقتراع و السلط و توزيعها غير قادرة على انجاز الإصلاح الاقتصادي، و ذلك هو المدخل الى الخطاب الشعبوي. و يرى النابلي ان التدهور الاقتصادي و نقص الثقة في المؤسسات السياسية و في مؤسسات الدولة لا يقود لغيرالشعبوية. فغياب التفكير و انعدام تنظيم التفكير ترك سلسلة القيادة مبتورة غير واضحة، و ثمة عجز في اتخاذ القرار، لذلك ثمة تركيز على كل ما هو سياسي رسمي، و اهمال لكل ماهو هامشي غير رسمي جهوي و هذه الفجوة الدراماتيكية تعمقت بعد الثورة و الحال انه كان من المفروض تجسيرها.
في تعقيبه على كلام النابلي، لم يخف بن عاشور امكانية هيمنة الشعبوية في المستقبل، و لكنه اكد ان الشعبوية لا تقود الا للفاشية و الاستبداد، لذلك ذكر بن عاشور بمعضلة القانون الانتخابي، و اكد ان ثمة مغالطة كبيرة يتم تكرارها، فنظام الاقتراع القائم على اكبر البقايا تم صوغه للمجلس التأسيسي فقط، و ذلك ضمانا لعدم هيمنة تيار سياسي واحد على المجلس التأسيسي. و ذكر بن عاشور انه لولا، نظام الاقتراع و دور المجتمع المدني، لتمت “أسلمة” الدستور.
في معرض تعقيبه على بعض المتدخلين حول توصيف الثورة و تصريحات الرئيس قيس سعيد بكونها “ثورة 17 ديسمبر التي أجهضتها ثورة 14 جانفي” ردّ بن عاشور ساخرا بكون الدستور التونسي حسم هذه المسألة، و جعل الامر دستوريا اذ هي فيه “ثورة التاريخين” على ما في ذلك من شعبوية وغياب للدقة التاريخية.
و قال بن عاشور ان ما حصل في تونس ثورة حقيقية تستجيب لتعريفات الثورة، إذ تتوفر شروطها الاربع، الانتفاضة الشعبية الشاملة و الرسالة و الاطاحة بالنظام و اعتلااف النظام الجديد بها. و لعل “التشكيك فيها عائد الى كونها لم تتطابق مع الانماط/المناويل الماقبلية ذات الطابع الايديولوجي الكبير الماثلة في بعض الاذهان”. فغياب فكر تنويري او ايديولوجيا مهمينة على الثورة التونسية لا يحرمها رسالتها، و هي “الكرامة و الحرية”. فلا تناقض بينهما. و من يعتقد ان ثمة تناقض بين 17 ديسمبر “ثورة الشعب من اجل الكرامة” و 14 جانفي “ثورة النخب من اجل الحرية” هو “تخلويض”، لان الحرية و الكرامة متلازمان.
كما أكد بن عاشور “ان الدستور لا يمنح الخبز، و لا يحلّ مشاكل المجتمع” و لذلك لا بد من تنسيب دور الدستور. و في خصوص النقاش الدائر حول مشروعية تحوير الدستور من عدمه، قال بن عاشور ان المؤسسين في المجلس التأسيسي، مسؤولون على المآزق الدستورية، و ذلك لانهم فضلوا الانطلاق من “ورقة بيضاء” في نسف لكل المراكمة التاريخية الدستورية لتونس منذ القرن التاسع عشر، و خاصة، لانهم كانوا محكومون بــ”الرغبة في خلق أمر نموذجي خال من كل عيب، فتمت كتابة نص مجرّد، لم يُراع مزاج التونسيين و أهوائهم و عاداتهم و أخلاقهم” و لذلك ظهرت عيوب الدستور بسرعة حتى قبل استكمال تركيز الهياكل الدستورية التي نصّ عليها. بقي ان بعض التحسينات ممكنة بما لا يمس من جوهر الحقوق و الحريات.
و في ختام كلمته أكد بن عاشور على ان رباعية “العقلانية و العمل و الصرامة في القانون” من شأنها تجديد السياسات، و كل ذلك هو شرط رقيّ الشعوب. لانها تسمح بتفجير طاقات الابداع و الخيال. فالفقر ليس قدرا، بقدر ما هو نتيجة لسياسات فاشلة طويلة الامد في التصرف في شؤون الدولة.
Comments