في الذكرى ال 62 للجمهورية .. الرئيس قايد السبسي يغادرنا
كتب: منذر بالضيافي
أعلن اليوم، الخميس 25 جويلية 2019، وفي الذكرى الثانية والستين لاعلان الجمهورية، عن وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي، هذا الرجل الذي شاءت الأقدار أن يكون شاهدا على تأسيس الجمهورية الأولى والثانية، وكان فاعلا ومؤثرا في اللحظتين، غادرنا ومسار الانتقال الديمقراطي يمر بلحظة فارقة، هذا المسار الذي كان أحد أبرز علاماته والفاعلين فيه، بل لا أبالغ بالقول بأن المسار ارتبط به منذ مارس 2011 الى يوم مغادرته الحياة، اليوم الخميس 25 جويلية 2019.
بعد ثورة 14 جانفي 2011، عاد الباجي قائد السبسي، بعد عشريتين من “التقاعد السياسي”، ليتصدر المشهد الوطني من جديد، من خلال قيادة تجربة انتقال سياسي نحو الديمقراطية، عاد “السياسي المخضرم”، الذي عاش كل مراحل تاريخ تونس الحديث، من التحرر الوطني، إلى بناء الدولة الحديثة، الى ثورة الحرية والكرامة، في 14 جانفي 2011.
عاد “الشيخ التسعيني” في مرحلة توصف بكونها “فارقة”، ضمن سياق ما يعرف ب “الحالة الثورية”، تمت الاستعانة بخبرته وبمعرفته بالمجتمع والدولة و “بشرعيته الوطنية” و “قابلية” قطاع واسع من التونسيين للإرث التحديثي للزعيم الحبيب بورقيبة، الذي يعد العائد من بعيد من أبرز ممثليه.
كل هذه العناصر مجتمعة، فضلا عن تقدمه في السن، بما يجعل منه زاهدا في الاستمرار في الحكم، وهو ما عبر عنه صراحة حينما أعلن عن عدم ترشحه لولاية أخرى.
عاد الرجل، الذي قالها صراحة: “أن السياسي لا يتقاعد”، لإدارة مرحلة انتقالية استثنائية، في موقع وزير أول، ليحقق حلم حرمه منه “أستاذه” بورقيبة فهو ليس من استكمل الشروط الواجب توفرها (شروط بورقيبة)، وعلى رأسها أن يكون “مستيري”.
أخيرا شاءت الأقدار أن يجلس على كرسي الحكم بالقصبة كوزير أول بصلاحيات رئيس حكومة، طلب منه إعداد البلاد لاستحقاق انتخابي، تكون مهمته التأسيس للجمهورية الثانية، مثلما أراد ذلك شباب الثورة في اعتصامي القصبة 1 والقصبة 2، الذين رأوا في استمرار محمد الغنوشي الوزير الأول لبن علي، خيانة للثورة بل سرقة لها، وهو الشعار الذي رفعه المعتصمون أمام قصر الحكومة، فكان لهم ما أرادوا، ومهدوا بل عبدوا الطريق لعودة البورقيبية التي أنقلب عليها منذ أكثر من ربع قرن.
فكان أن حقق ما طلب منه وزيادة، وعاد إلى منزله بسكرة لاستئناف تقاعده، مثلما أكد لي ذلك في لقاءاتي التي امتدت معه أكثر من 6 سنوات متتالية، وفي لقاءات دورية ومنتظمة، وأيضا في سفرات رسمية رافقته فيها رحمه الله، حيث شدد لي أنه عازم على وضع البلاد على سكة الديمقراطية.
قام بذلك بكل قناعة ووطنية، هذا ما يفسر تحركه وبسرعة ليعود بعد ثمانية أشهر من مغادرته القصبة، بعد أن تبين له أن المسار يتعثر، بسبب فشل الإسلاميين في الإدارة السياسية للبلاد ، نتيجة انعدام الخبرة وعدم المعرفة بفن إدارة الحكم والدولة.
ينضاف إليها تدهور الوضع الأمني، بعد حصول اغتيال سياسي أول، ذهب ضحيته القيادي اليساري شكري بلعيد (6 فيفري 2013)، واغتيال ثان ذهب ضحيته النائب في المجلس الوطني التأسيسي، وأحد قيادات التيار القومي، محمد البراهمي في 25 جويلية 2013 (في ذكرى اعلان الجمهورية) ، فضلا عن بروز مخاطر جدية تهدد “النمط المجتمعي” و”المشروع الوطني”، الذي ساهم في بنائه قايد السبسي، تحت قيادة الزعيم الحبيب بورقيبة، وبرفقة رجال وطنيين سخروا كل حياتهم للقضية الوطنية دون غيرها.
مشروع مجتمعي ووطني عصري عبر عنه من خلال “دولة حديثة”، تشبع ونهل منه الباجي قائد السبسي، حد التماهي معه، وان كان يقر بحصول أخطاء ومطبات كان يمكن تجاوزها، لعل من أهمها التلكؤ في إدخال “جرعة” مناسبة من الديمقراطية على الحياة السياسية، بدأت ملحة منذ سبعينات القرن الماضي، وكان هو نفسه من أحد دعاتها والمتحمسين اليها، ولعل انتماء الرجل للتيار الليبرالي في الحزب الحاكم انذاك (الحزب الاشتراكي الدستوري)، تيار تبلور بعد مؤتمر المنستير سنة 1971، دفع السبسي ضريبة الانتساب اليه بطرده من الحزب ثم العودة اليه، وفي ذلك خير دليل على أهمية المسألة الديمقراطية عند الرجل، فكرة بقت حية في فكره ووجدانه، زيادة على أنه يعتبرها ضرورية لاستكمال المشروع السياسي البورقيبي، و هو ما شدد عليه السبسي في كافة مسارات حديثي معه، ضمن سلسلة من اللقاءات تمثل العمود الفقري للكتاب الذي ألفته حوله تحت عنوان: “الباجي قايد السبسي .. المشي بين الألغام” ( عرض للكتاب: https://www.alarabiya.net/ar/north-africa/2017/03/28/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%AC%D9%8A-%D9%82%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D8%B3%D9%8A-%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%AA%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D9%86%D9%8A.)
حدثنى الرئيس السبسي عن أسباب عودته من جديد، اثر انتهاء مهمته في الوزارة الأولى، وعودته لبيته في ضاحية سكرى، مؤكدا على أنه عاين بروز مخاطر حقيقية خلال حقبة حكم الترويكا برئاسة “النهضة” الإسلامية، نمتها مخاوف تمدد التيار الديني المتشدد، وهو يغزو الفضاءات العامة، ويحاصر الحريات الفردية والجماعية، مشاهد مخيفة زادتها سوداوية ألوان رايات السلفية قتامة، فرضت على الباجي قائد السبسي الخروج مرة أخرى من منزله، ودفعت به من جديد في أتون صراع سياسي شرس، قاده بكل حماس وحيوية، متجاوزا حدود طاقته الجسدية و متمردا على أحكام الشيخوخة، ما جعله يتحول إلى إيقونة في عيون أنصاره وقطاع واسع من التونسيين خاصة من النساء، الذين فوضوا “البجبوج” كما يحلوا لهم مناداته، فوضوه جميعا مهمة أن يكون مدافعا و حارسا للمشروع الوطني الحداثي.
فكان أن بادر بتأسيس حزب “حركة نداء تونس”، و الشروع في خوض معركة مع تيار “الإسلام السياسي” ممثلا في حركة “النهضة”، معركة كانت فصولها مثيرة، استطاع خلالها الشيخ التسعيني، توظيف كل رصيده الرمزي، ومهاراته في المناورة السياسية وفي الخطاب، وتجربته العميقة في مراقصة الذئاب وأيضا حكمته في ادارة الصراع، بين الحزم واللين .. معتبرا دائما أن “العبرة في السياسة بالنتائج”، وفعلا كان له ما أراد فكانت النتيجة لصالحه، اذ استطاع وبعد عناء شديد إعادة القطار إلى السكة من جديد، من خلال الاحتكام لآليات الديمقراطية.
فبعد تأسيس حزب “نداء تونس “، استطاع “الشيخ التسعيني” القيام بتعبئة وطنية شاملة حول مشروعه الوطني التحديثي القديم/الجديد، نجح من خلالها في كسب الاستحقاقات الانتخابية التشريعية (البرلمان) و الرئاسية (الانتخابات الرئاسية)، ليجمع مع موفى سنة 2014، كل السلطات بيده، ويعيد السلطة من جديد لقصر قرطاج.
Comments