في الذكرى 65 لعيد الأمن .. الدكتاتوريّة ليست “أَمْنيَّةً” فقط !
منذر بالضيافي
أعاد خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيد اليوم بمناسبة الذكرى 65 لعيد الأمن الوطني التونسيين أكثر من 10 سنوات للوراء، وأثار كل الاتهامات السابقة التي كانت توجه لوزارة الداخلية، بأنها الذراع القوي الذي حكم به بن علي وقبله الرئيس بورقيبة، وأن البناية الرمادية التي تتربع في شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة، هي التي تتحمل “وزر” كل ممارسات النظام التسلطي في العهدين ما قبل 11 جانفي 2011، و ما صاحب ذلك من “شيطنة” و “تصفية حسابات” مع هذه المؤسسة، وما تسبب من مظالم واعتداءات في حق المؤسسة والمنتسبين اليها، وهو ما ألحق ضررا بأمن البلاد والعباد.
عادت هذه الصورة اليوم، عندما خطب الرئيس سعيد في الحضور قائلا بأن “رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية”، أي أن كل من يحمل السلاح تحت تصرفه وامرأته ولا يشاركه في ذلك أحد، بما في ذلك رئيس الحكومة مثلما نص على ذلك دستور 2014، وبالتالي أراد الرئيس سعيد أن يضع كل تشكيلات القوات المسلحة تحت تصرفه، العسكرية والأمنية المدنية والديوانة، لتصبح كلها – في تصوره طبعا – رهن اشارته، مثلما كان الحال قبل جانفي 2011.
وهو في الحقيقة ليس الأول بعد الثورة من “خطط” لوضع اليد على المؤسسة الأمنية، وهنا توجه اتهامات خاصة لحركة النهضة، بأنها سعت وما تزال للهيمنة على البناية الرمادية، وتجييرها لفائدة مصالحها و “التمكين” لمشروعها السياسي، وكان ذلك محل رفض من كافة مكونات المجتمع السياسي والحقوقي، وأيضا من قبل الأمنيين الذين استفادوا من الدرس السابق، ويريدون اصلاح مؤسستهم وقيام نظام جمهوري، يكون في خدمة البلاد لا الأحزاب والأنظمة السياسية ولا الأفراد، وقد قطعوا – برغم العراقيل – اشواطا مهمة في سبيل تحقيق هذا الهدف الذي يبدو أنه ما يزال تفصلنا عنه عوائق، لكن ليس مصدرها الأمنيين بل السياسيين.
أما مجتمعيا، فان مخاطر الارهاب وعدم الاستقرار وما أبدته المؤسسة الأمنية من تفان في الحرب على الارهاب فضلا عن بروز نوايا حقيقية من قبل الأمنيين لاعادة بناء أمن وطني جمهوري، كلها عوامل عجلت جعلت بالمصالحة بين الأمن والمجتمع. وتم تجاوز ذلك إلى حدّ التضامن معهم في مطالبهم، وخاصَّة تلك المتمثِّلة في بناء أمن جمهوري، يكون ولائه للوطن لا للأحزاب.
وهذا ما طالبت به النقابات والقيادات الأمنية ، حينما دعت الأحزاب السياسيّة إلى ضرورة عدم تسييس المؤسَّسة الأمنيّة، أو التفكير في “الإندساس” فيها أو تكوين ما يشبه “أمنًا موازيًا”، وهو مطلب وجد تجاوبا مجتمعيا، فهناك إدراك بأن “الأمن هو أساس العمران”. وهذا لا يتمّ إلّا عبر صياغة عقيدة أمنيّة جديدة، تحمي الأمنيِّين وكذلك البلاد والمواطنين. ممَّا يحتِّم ضرورة التعجيل بإصلاح المنظومة الأمنيّة، في كلّ جوانبها الماديّة والتشريعيَّة. وهو مطلب أساسي ومركزي للأمنيين ولنقاباتهم.
كما يجب إيقاف نزيف حوادث الإعتداءات على رجال الأمن والمؤسسات الأمنيّة. وهي ظاهرة تكرَّرت كثيرا بعد 14 جانفي. وأصبح تَكرارها يُمثِّل خطرًا على السِّلم والإستقرار الاجتماعي. وبالتّالي على استمرار الدولة وحماية مؤسَّساتها من الإنهيار. وهو ما يجب أن يدركه الجميع، معارضةً وسلطةً. وهذا لا يتمُّ إلّا عبر طيِّ صفحة الماضي، الّتي تُحمِّل المؤسَّسة الأمنيّة مسؤوليّة حماية “الدكتاتورية”. وهي في الواقع مسؤولية مشتَركة غذَّتها حالة “القابليّة” المجتمعيّة العامة للإستبداد.
وبالمناسبة، فانه و من أكثر المشاهد الّتي بقيت وستبقي راسخة في تاريخ تونس الحديث. وفي ارتباط عضوي بالدلالات والرموز المعبِّرة عن الثورة. مظاهرة 14 جانفي 2011 أمام مقر وزارة الداخلية. لا بسبب كونها كانت آخر حدث ارتبط بهروب الرئيس السابق. وإنَّما بسبب الرسالة الّتي أراد المتظاهرون توجيهها إلى النظام، وهو في “سكرات الموت”. والّتي ترى أنّ سقوط النظام يكون بسقوط “وزارة الداخلية”، وأنَّها “عنوان ورمز الاستبداد”، سواء في زمن بورقيبة أو بن علي.
لقد اختار بن علي أن يجعل من نظامه “بوليسيّا”، انطلاقا من خلفيتة “الذهنية” و”الثقافية”، ووجد كلَّ الدعم و”التنظير” من قبل “بعض” المثقفين والسياسيين، لا من الأمنيين فقط، وفي تقديرنا فإن “وِزر” من خطط وفكر، أشدُّ وطأة من “وِزر” الذين نفذوا.
وبالعودة إلى السنوات الأولى لحكم بن علي، وخاصَّة بعد حصول التصادم بين نظامه والإسلاميين. نجد أن الدعوة إلى “الحل الأمني” ، تمَّ تبنيها والتشجيع عليها في المقام الأول من قبل بعض المثقفين وحتى “الحقوقيين” أيضا، وكان بعد ذلك الدور على الجميع، فهم ، أعني هنا المثقفين، المسؤولون عن نشأة “نظام تسلطي”، لا “قيادات” وأعوان الداخليّة.
بعدها اختار بن علي اللّجوء إلى المؤسَّسة الأمنيَّة في تصفية كلّ الملفات، وخاصة السياسيّة منها. وهذا ما جعل من بنايتها الضخمة المنتصبة في الشارع الرئيسي للعاصمة، تستفزُّ التونسيّين، وخاصّة المعارضين منهم، وتذكرهم “صباحا مساءا ويوم الأحد”، على حد تعبير الشاعر أولاد أحمد، بما عانوه من تعذيب جسدي وانتهاك مُمَنهج لمعنوياتهم.
مثل هذه الصورة الّتي حفرت في ذاكرة الكثير، حان الوقت لتجاوزها عبر التسريع ببناء علاقة جديدة بين المواطن ورجل الأمن. ولعلَّ هذا ما يفسِّر تتالي الدعوات إلى وضع منظومة متكاملة لإصلاح الداخلية.
لقد كشفت تطورات الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصادية، بعد الثورة، عن الحاجة لمؤسَّسة أمنيّة قويَّة ومستقلة. وأنّ ذلك يبدأ بتوفير الإحترام والأمان للعاملين في هذا السلك.
وعلى ضوء هذا فإن عودة الأمن تمرُّ عبر عودة الهيبة لرجال الأمن. وليس في هذا مقايضة للحريات بالأمن. بل إنّه تعبير عن الحاجة الملحة للأمن في حياة الشعوب. ولذلك نجد أنّه وأمام تفشي الاعتصامات والاحتجاجات العشوائيّة، و الخوف من الذهاب للفوضى بسبب المأزق السياسي والمشاكل الاجتماعية المتراكمة، تحوَّل الأمن إلى مطلب مجتمعي في المقام الأول.
Comments