في حاجة الأحزاب إلى راحة بيولوجية؟
خالد شوكات*
علينا الإقرار بفشل المنظومة الحزبية الحالية. أقول منظومة حزبية عن وعي تام بصواب العبارة، فالأنظمة الديمقراطية تحتاج “منظومة حزبية” لا “مجموعة أحزاب”، يكون بينها الحد الأدنى من التوافقات والمشتركات حتى تتمكن من تحمل مسؤوليتها الجماعية تجاه مؤسسات الحكم، سواء أكان النظام “تداوليا” أو “توافقيا”، فالحفاظ على سيرورة الدولة والنظام يقتضي هذه القاعدة المشتركة بين الكيانات الحزبية أياًّ كانت مرجعياتها الفكرية وتوجهاتها السياسية، وهو ما لم يتوفر في تونس للأسف خلال العشرية الماضية من الانتقال الديمقراطي.
والاقرار بفشل المنظومة الحزبية لا يعني الاتفاق في الرأي مع رئيس الجمهورية الذي يدعو إلى تجاوزها والاستعاضة عنها بمنظومة “هلامية” غير قابلة للتطبيق على الاقل في هذه المرحلة التاريخية من عمر البشرية، فعلى الرغم من أزمة الديمقراطية النيابية والدعوات المتكررة الى شحنها بجرعات من الديمقراطية المباشرة، الا ان الانسانية لم تتوصل الى الان الى نظام سياسي افضل من النظام الديمقراطي التعددي، وحتى ذلك التاريخ الذي يتمكن فيه الفكر البشري من ادراك النظام الافضل، يظل الواجب الديمقراطي ملزماً بإيجاد حلول لإنقاذ المنظومة الحزبية من خلال تمكينها من اعادة بناء نفسها.
علينا ايضا الإقرار بان الدولة الديمقراطية الجديدة في تونس لم تتحمل مسؤوليتها في بناء المنظومة الحزبية المناسبة. لقد تركت الاحزاب لحال سبيلها، وظلت من الناحية القانونية تعمل بمرسوم انتقالي لا يستجيب للحد الأدنى من حاجياتها، كما ظلت محرومة من التمويل العمومي، وهو ما جعلها فريسة ل”الكمبرادور” ول”الكونترا” ول”الترابندو”، تراوح بين زمنين تنظيميا ووظيفيا، وهي في جلها “مشاريع احزاب” اكثر مما هي “أحزاب”، ضاربة جذورها في الماضي البعيد والقريب على السواء، أكثر مما هي مادّة أغصانها الى المستقبل، وتعبّر عن التناقضات الأيديولوجية اكثر من تعبيرها عن التنافس البرامجي المطلوب.
هكذا وجدت هذه الاحزاب المسكينة نفسها طيلة عقد من الزمان مطيّة مغامرات شخصية وطموحات طبقية وتوازنات مناطقية ونتائج انتخابية مزاجية وأجندات خفية داخلية واقليمية ودولية، أربكت الساحة السياسية وأوهنت مؤسسات الحكم وآذت التزامات الدولة وعمّقت أزمة الديمقراطية وعجزت عن المساعدة في وضع برامج التنمية وتنفيذ مخطاطاتها والاخطر انها لم تتمكن من توفير الموارد البشرية ذات النزاهة والكفاءة التي يحتاجها النظام الديمقراطي، بل استسلمت لأهل التفاهة والرداءة حتى عادت أضحوكة لدى الرأي العام وسامها كل مفلس.
الان وقد بدا ان رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي في طريقه الى منح “حزب الادارة” مسؤولية ادارة الحكم خلال السنوات القادمة المتبقية من المدة النيابية، تحت حجة اساسية تبدو معقولة ألا وهي “ايقاف النزيف”، فان الاحزاب السياسية مدعوَّة في رأيي الى اتباع سياسة واقعية تمنحها اربع سنوات ضرورية لإعادة بناء نفسها من اجل انتاج احزاب مستقبلية بملامح وبنيات وروح العصر، فهذه “الراحة البيولوجية” تماما كما في البحار والمحيطات والغابات والمحميات غالبا ما تكون انعكاساتها إيجابية على الكائنات الحية المهددة بالانقراض.
*وزير سابق/رئيس المعهد العربي للديمقراطية
Comments