في "حتمية" التحول الديمقراطي في المنطقة العربية !
كتب رستم محمود، الباحث السوري، المهتم بقضايا التاريخ السياسي والاجتماعي لمنطقة الشرق الأوسط، مقالا في موقع موقع قناة “الحرة”، تطرق فيه الى مسار “حتمية ” التغيير الذي دخلت فيه المنطقة العربية، والذي جاء الحراك الاحتجاجي في السودان والجزائر ليؤكده، لكنه، أشار الى أنه ليس من المؤكد ” أن يكون هذا التغيير لصالح التحول الديمقراطي وتجاوز حالة الاستبداد”.
في ما يلي نص المقال:
أثبت أحداث الجزائر والسودان، بعد كل الذي جرى في سوريا واليمن ومصر وليبيا، بأن موجة التغيير التي يشهدها وسيشهدها العالم العربي إنما تأخذ مسارا حتميا، مستندا إلى تماه مع التحولات الجيلية والاقتصادية والديموغرافية والمجتمعية والتواصلية الهائلة التي تجري في داخل مجتمعات دول منطقتنا؛ وإلى موائمة ما يجري في هذه الدول مع الكل العالمي، الذي بدأ منذ أوائل التسعينيات من القرن المنصرم في بلدان شرف أوروبا، وصار يجول في مختلف مناطق العالم، إلى أن وصل محطته العربية في العام 2011.
إلا أن هذه الموجة، وإن أثبتت حتميتها التغيرية، فإنها لم تثبت حتمية أن يكون هذا التغيير لصالح التحول الديمقراطي وتجاوز حالة الاستبداد والاحتكار التي انتفضت ضدها، نحو أنظمة سياسية مدنية ديمقراطية مطابقة للمعايير العالمية للدمقرطة واحترام منظومة حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية في توزيع قوة الدولة وحيادها عن الصراعات الاجتماعية والسياسية.
سوريا، بالرغم من متانة مركزية الحكم بداخلها، فإنها كانت على الدوام كيانا هشا، جغرافيا وديموغرافيا
بين حتمية التغيير من طرف، واحتمالية أن يكون ذلك التغيير لصالح التحول الديمقراطية من طرف آخر، ثمة مُحددات نظرية شديدة الوضوح، كان يُمكن ملاحظتها وتأطيرها في التجارب السورية واليمنية والليبية والعراقية والمصرية، ومُقارنتها تفصيلا مع ما يناظرها في الحالة التونسية. حيث كانت التجارب الخمس المذكورة تغيرية تماما، فأن أيا منها لم تحقق شرط التجربة التونسية، الذي بقي نموذجا استثنائيا للتغيير الديمقراطي المدني نحو الدمقرطة.
♦♦♦
ثمة أربع قوى/طبقات/تنظيمات في أية دولة كانت، يشكل الكشف عن خصائصها ومواقعها وشبكة العلاقات المُركبة فيما بينها، يشكل الأداة النظرية لفهم وتوقع وإدارة عملية التغيير الحتمية، وإمكانية أن يكون ذلك التغيير الحتمي لصالح التحول الديمقراطي.
تأتي نخب الحكم حول رأس سلطة الحُكم في هذه البدان في مقدمة تلك التشكيلات. وهي عبارة عن طبقة الـ 1 في المئة المهيمنة على مراكز القوة في الدولة والحياة العامة في أي بلد، تلك التي نمت وتضخمت وتعقدت شبكة تداخلاتها في ظلال النظم الشمولية، التي رعتها بالاحتكار الاقتصادي والحماية القانونية والهيمنة السياسية والأمنية. تلك النخب، التي لم يعد ثمة حدود بين قوتها الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والإعلامية والتعليمية، هي نخب الهيمنة والقوة في كل تفصيل.
إلى جانب هؤلاء، ثمة طبقة العسكر. التي يُمكن أن تكون في دولة ما طبقة أمنية استخباراتية أو ميليشياوية، لكنها بمجموعها تشكل ما يمكن اعتباره “الدولة العميقة”. تلك التي تعتبر نفسها حامية الكيان والوصية على النظام العام والسلام الاجتماعي، لكنها في جوهرها تملك طيفا من المصالح والاستثناءات التي يسمح النظام الشمولي لها بتنمية سلطاتها وثرواتها ومواقعها الاجتماعية.
تشكل قوى المعارضة السياسية في هذه الدول، ثالث تلك الطبقات. فأيا كان تواضع حجمها ودورها وفاعليتها وشرعيتها، لكنها في المحصلة تبقى الجهة الوحيدة القادرة على بلورة وتأطير مطالب وتوجهات القوى المجتمعية المنتفضة في وجه الأنظمة الشمولية.
أخيرا يأتي التموضع الإقليمي لهذه أو تلك من الدول. مدى جوارها لأنظمة ديمقراطية من عدمه؛ مستوى تداخل وتأثير مجتمعات وأحوال هذه الدولة مع محيطها من الدول؛ قدرة هذه الدول المحيطة على التدخل والتأثير على دواخل هذه الدولة؛ مدى ارتباط مصالح واستقرار هذه الدول مع التحول الديمقراطي في هذه الدولة التي تشهد الموجة التغيرية.
ثمة عوامل وطبقات أخرى أكثر تفصيلا، تؤثر على احتمالية أن يغدو التغيير الحتمي تحولا ديمقراطيا، مثل تاريخ الحروب الأهلية في هذه الدولة أو تلك، أو بنية التوزع المذهبي فيها، نوعية الاقتصادي ومركزية المُدن الكبرى، لكنها تبقى عوامل ثانوية مقارنة بالمحددات الأربعة الرئيسية تلك.
♦♦♦
في تونس، كانت مواقع وسلوكيات وهويات تلك الأعمدة الرئيسية الأربعة شبه مثالية، لذا حدث صار التغيير الحتمي تحولا ديمقراطيا بكل سلاسة.
فالجيش التونسي كان يرى نفسه جزء من بُنيان الدولة وليس السلطة، لكنه أيضا آمن أولا بإمكانية حفاظه على مصالحه ومواقعه حتى لو حدث التغيير من نظام شمولي إلى نظير ديمقراطي. كذلك كانت تعتقد نُخب القوة التونسية إلى حد بعيد، إذ رأت أن جذر قوتها متأت مما تمتلك من ثروات وإمكانيات وتداخل مع الكُل العالمي، وليس مما يوفره لها النظام السياسي من احتكارية فحسب.
نخب المعارضة التونسية، الإسلامية واليسارية والليبرالية منها على السواء، لم تسلك درب القطيعة المطلقة مع مؤسسات وبنى النظام القديم، كالجيش وأجهزة الأمن والبيروقراطية والشركات الكبرى، تلك التي لا يُمكن لأية دولة حديثة أن تقوم بدونها. هذه النخب التونسية التي لم تتصرف بثأرية، بل آمنت بواقعية ما راكمته الأنظمة الشمولية من بُنيان، الذي فيما لو انهار فإنه سيطيح بالجميع. هذا غير ما استطاعت أن تصكه من توافقات فيما بينها.
كذلك فإن المجتمع والقوى الفاعلة التونسية، سياسيا وديموغرافيا واقتصاديا، يعيش في شبه عزلة واستقلال عن الجارتان القلقتان، ليبيا والجزائر، اللتان لم تسمح الظروف لهما بالتدخل في الأحوال التونسية.
لأجل كل ذلك، فإن التحول الحتمي غدا تحولا ديمقراطيا سلسلا في التجربة التونسية.
في كل واحدة من الدول الأخرى، كانت ثلاثة من تلك الأعمدة الأربعة، على الأقل، منهارة. لذلك لم يغدو التغيير في دواخلها تحولا ديمقراطيا.
في مصر، كان الجيش مواليا وجزء من الدولة أكثر من النظام السياسي، لكنه كان متيقنا على الدوام بأن مصالحه الشاسعة لا يمكن حفظها إلا بنظام حاكم ذو صبغة عسكرية في نواته. كذلك فإن نخب القوة المصرية كانت أكثر نخبوية وإيمانا بأن النظام الديمقراطي سيحطم مواقعها وأدوات مراكمتها لثروتها. كذلك فإن نُخب المعارضة المصرية، بالذات تنظيم الإخوان المسلمين الجهة الوحيدة شديدة التنظيم، كانت نخب ثأرية وقطعية مع الجيش وجهاز القوة الرمزية والمجتمعية الحاكم، وغير مراعية لمصالح وسطوة هذا الجهاز في بنية أجهزة الدولة.
لم يكن في النموذج المصري من دعامة لمساندة التحول الديمقراطي سوى استقلالية الفضاء الداخلي المصري عن جواره، لكنه، ما استطاع أن يغالب العوامل الأخرى.
في مصر، كان الجيش متيقنا على الدوام بأن مصالحه الشاسعة لا يمكن حفظها إلا بنظام حاكم ذو صبغة عسكرية في نواته
شكلت سوريا النموذج النظير المعاكس لما في تونس تماما. فالجيش والقوى الأمنية السورية كانت سدنة هيكل النظام السياسي الحاكم. ومثلهم كانت نخب القوة حديثة الثراء وشديدة العرفان للنِظام الحاكم. كذلك فإن قوى المعارضة السورية لم تتمكن من تشييد مركز سياسي سوري عمومي، يتجاوز الانقسامات الأهلية والحساسيات السياسية السورية، وطبعا لم تتمكن من صناعة أية أواصر مع نُخب القوة السورية، بالذات تلك الأكثر استقلالية عن النظام الحاكم، مثل تجار وصناعيي المدن الكبرى.
فوق هذا، فإن سوريا، بالرغم من متانة مركزية الحكم بداخلها، فإنها كانت على الدوام كيانا هشا، جغرافيا وديموغرافيا. تمكنت دول الجوار والقوى الإقليمية والدولية من التدخل واللعب في شؤونه الداخلية واللعب على تناقضاته لصالح هذا الجوار، وبالتضاد من التحول الديمقراطي الذي قد يشهده.
باقي تجارب الدول الأخرى، في ليبيا واليمن والعراق، وإلى حد ما في المغرب والأردن، وراهنا في الجزائر والسودان، ودون شك مستقبلا في باقي الدول العربية الشمولية الأخرى، تراوحت تجاربها على أوتار تلك العواميد الأربعة. حيث كان شرط مطابقة التغيير الحتمي للتحول الديمقراطي مرتبطا بسلامة وصحية تلك المحددات الأربعة.
رابك المقال:
https://www.alhurra.com/a/%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9/485895.html?fbclid=IwAR0Ji_qEd6f33S9HO1YhYuU_AHNgQMDqF3-xejkxpKw_gcsf9368sMs_DA0
Comments