في ذكرى اغتيال أبو جهاد .. شهادة للصحفي الراحل عبد الرؤوف المقدمي
كتب الإعلامي الراحل صاحب القلم المميز عبد الرؤوف المقدمي نصا طويلا ثريا بالمعلومات حول الشهيد أبو جهاد . نص مكتوب بلغة أدبية رائعة ويقدم المعلومات التي حفت بظروف الاغتيال باعتماد طريقة السرد وأدواته. ولقد أهديت لمؤسسة دار الأنوار هذا النص الكتاب وقامت مشكورة بنشره في الذكرى الأولى لوفاة العزيز علينا عبد الرؤوف المقدمي.
بمناسبة ذكرى وفاة الخليل الوزير أبو جهاد ننشر لكم صفحات قليلة من هذا العمل.
الدكتورة امال موسى
كتب: عبد الرؤوف المقدمي
يمكن اعتبار الثمانينات، حقبة إرهاب، ومحطة بارزة في تاريخ الصراع الفلسطيني-الصهيوني، ومرحلة خطيرة مرّت بها الثورة الفلسطينية. ففي هذا العقد اجتاحت إسرائيل لبنان وأطردت قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، وقتلت الكثيرين منهم. وبعد اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية، وخصوصا بعد اندلاع الحرب بين العراق وإيران أصبحت المنطقة مهيأة لعربدة إسرائيلية، تصرّ بعنف وعلى عجل، على الانتهاء من الفلسطينيين وطمس قضيتهم الوطنية، وإيجاد واقع استراتيجي جديد في منطقة الشرق الأوسط، يُمكّنها من تحقيق أهدافها الاستعمارية، ويوفر لها أمنا هي في حاجة إليه.
ونظرا إلى تشابك المصالح بين الولايات المتحدة الأمريكية و إسرائيل، ولمتانة العلاقة القائمة بينهما، ونظرا إلى تحالفهما الاستراتيجي، وحاجة كل طرف إلى آخر حاجة أكيدة، فقد زكّت أمريكيا كل الأعمال الإسرائيلية، ووفرت لعربدتها الغطاء والحصانة اللازمين، وكل مظاهر المساندة الماديّة والسياسيّة.
ورغم قوة هذا الحلف وصلفه، فإنه فشل فشلا ذريعا في لبنان. فقد انسحبت القوات الإسرائيلية متدحرجة إلى الخط الأممي الحدودي، وتمّ تفجير السفارة الأمريكية ببيروت، وتسبب أحد الانتحاريين في مقتل (241 ) جنديا من قوات المارينز بضربة واحدة. وهي أكبر حصيلة من الخسائر تتعرض لها القوات العسكرية الأمريكية آنذاك في يوم واحد، منذ هجوم تعرضت له تلك القوات في الفيتنام سنة 1968.
ثم سقطت بشكل مخز اتفاقية السلام اللبنانية-الإسرائيلية، وقتل الرئيس بشير الجميل، الذي لم يكن يخفي أنه إسرائيلي الهوية والتوجه والذي لم تكن تقوده في سياساته إلا الرؤى الطائفية الضيّقة، بحيث كان أحد الداعين إلى حلف مسيحي-إسرائيلي يواجه المسلمين في بلده لبنان، وفي منطقة الشرق الأوسط ككل.بل وفي العالم بأسره إن دعت الضرورة إلى ذلك.
والغريب، أنه في تلك السنوات، أصدر “بنيامين ناتنياهو”، السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة كتابا تحت عنوان: الإرهاب …كيف ينتصر الغرب؟
وكان الكتاب في الأصل تلخيصا لمؤتمر صهيوني انعقد في واشنطن، تمّ فيه التركيز على خطر ما يسمونه “الإرهاب العربي” وتهديده للغرب، وضرورة مواجهته. وهو ما كان تحت ضغط الإعلام وتهويله وأكاذيبه، مسيطرا على العقل الأمريكي من القمة إلى القاعدة.
وقد كان الرّئيس الأمريكي “رونالد ريغن” بدوره مسيحيا متطرّفا، ليس بالمعنى الإيماني، وإنما بالمعنى السياسي. إنها النتائج العبثية، لأحلاف التآمر والخديعة.
ومن الغرائب أن الأقدار شاءت أيضا، أن يتعرّض الرئيس “ريغن” لمحاولة اغتيال، وأن تخترق خرطوشة مسدس إحدى رئتيه، لكن السبب كان أتفه ممّا تصوّرته مخابراته في الأول. (انظر كتابي: مجانين ومرضى الحب في تونس: محاولة في فهم مرض غريب).
ويبدو أن تلك الحادثة، جعلت الرئيس الأمريكي، عوض أن يوجّه نقمته إلى فرد من شعبه وإلى استوديوهات هوليود، وجّهها نحو العرب، وتحديدا نحو الفلسطينيين.
وحسب تقارير صحفيّة متعدّدة، نشرت بعد اغتيال أبو جهاد مباشرة، فإن عملية الاغتيال هي تنفيذ لخطة كاملة، وضعتها المصالح الأمنية الإسرائيلية، وتقضي الخطة، التي أقرّها مجلس وزاري مصغر، بتصفية القيادة الفلسطينية، بكامل رموزها.
وتبدأ قصّة الخطّة بزيارة، قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق شامير إلى واشنطن. وفي جلسة عقدها مع “ريغن” كشف النقاب عن خطة أعدها مع الموساد بدرجة أولى للغرض المذكور. وقد تحتاج في تنفيذها إلى مساعدة أمريكية، باعتبار أنّ غايتها في النهاية القضاء على “الإرهابيين” الذين يهددون مصالح الطرفين.
وقد وافق “ريغن”، بل وأثنى عليها. وقد يبدو، في موافقة الرئيس، شيء من مبالغة التقارير، لكن في مثل تلك الظروف، وبمثل تلك المصالح، فإن “لعبة الأمم”، تحتمل ما هو أكبر من المبالغة، بل والمهم أنّ “شامير”، بعد عودته إلى تل أبيب، اجتمع بمدير ” الموساد”.
وطرح هذا الأخير خمسة وعشرين (25) اسما لشخصية فلسطينية، يجب اغتيالها حسب الترتيب والأهمية، ومنها ياسر عرفات وأبو جهاد وأبو إياد، وجورج حبش، ونايف حواتمة، والعقيد أبو الطيب، وفاروق القادومي، وأبو العباس، وغيرهم.
وفي اجتماع مجلس الوزراء المصغّر، أثير جدل طويل حول الشخص الذي يجب اغتياله في المرحلة الأولى. وانحصرت المؤامرة، حول أبو عمار وأبو جهاد. فالذين طرحوا اسم أبو عمار، ومنهم “شارون”، كانوا يرون أن هذا الأخير هو الرأس المدبرة، إضافة إلى على كونه رمز القيادة التاريخية، وسقوطه سوف ينهي الانتفاضة، وسوف يدفع بالخلافات من جديد إلى صفوف القيادات الفلسطينية.
إلا أن مدير الموساد، كان يرى أنه من الصعوبة بمكان النيل من أبو عمار. فالحراسة حوله مكثّفة، وتحركاته متعدّدة، وأضاف – أي مدير الموساد- أن الأجدى هو اغتيال أبو جهاد، خصوصا وأنه مسؤول عن 80 % من الأعمال الفدائية المرتكبة ضد إسرائيل، وأن علاقته بالانتفاضة علاقة قيادية مباشرة.
وقد حسم الأمر في الأخير في هذا الاتجاه… وتمّ الاتفاق على التدريب على العملية والتحضير اللازم لها…
وانفضّ الاجتماع، تاركا المسألة للأجهزة المختصّة.
نقطقة ساحرة، مفتوحة ومكشوفة…
كانت تونس، في تلك الأيام، في أواسط أبدع الفصول، فصل الربيع.
وفي الربيع يتألق جمال تونس ويتشكل في أبهى الصوّر ويجمع كلّ الألوان: الأبيض النّاصع والأصفر الفاقع والأحمر القاني …ليرسم لوحة بديعة تزيد في نضارة الأخضر حياة ورونقا.
تصبح تونس روضة رياحين، وحديقة أزهار، وعشّ عصافير.
وفي الربيع، تصبح الضّواحي الشماليّة للعاصمة، خصوصا ضواحي سيدي بوسعيد، والمرسى، وقمرت، من أفضل الأماكن المتاحة للراحة، والتأمل، والأمان.
فهي ربوة جبلية متسلسلة، على ضفة بحر أزرق هادئ.
وفي تلك السنوات، وقبل أن يهجم العمران، كنت تستطيع أن تزور فيها حقولا صغيرة، لفلاحين بسطاء، وأن ترى من خلالها بساطة الأرياف، وجمالها، حيث العصافير الشاديّة، والفراشات المحلقة، والنّحل الجوّال.
كان عاديا جدا، وأنت تدخل ضاحية المرسى، قادما من سيدي بوسعيد، أن ترى على يمينك، قطعان ماعز، أو بقر، أو خرفان ترعى وأن تشتري من أسواقها الصغيرة، خبز الطابونة (التنور)، وجبن الإكليل والزعتر، وعسل النحل، والسمن البلدي، وأن تتواصل في مقاهيها مع أناس لا تعرفهم، بكل تلقائية وحبّ ومودّة…
وعلى تلك الروابي، خاصة بسيدي بوسعيد، تتناثر مساكن راقية، وسط أشجار خضراء متنوعة، أشكالها الهندسية المعمارية أصلية، وتنم عن ذوق رفيع. أما أناسها وسكانها، فمن مختلف الجهات، وإن كانوا من شريحة طبقية واحدة، أو متقاربة.
وفي تلك الروابي ، يعيش كل واحد منهم على حاله، كما يقال، لا يهتم إلا بأموره، ولا يعرف شيئا عن أقرب جيرانه، إلا في حالات نادرة وقليلة، على عكس بقية السكان الذين يعيشون في حزام المنطقة وفي حقولها الصغيرة، الذين يتعارفون، ويتصادقون، ويتزاورون.
ونظرا إلى المساحة الجغرافية الصغيرة لمنطقة سيدي بوسعيد، المرسى، قمرت، فإن الطريق الرّئيسة التي توصلها ببعضها، واضحة، لا تتطلب سؤالا، ولا تحتاج إلى ذاكرة جغرافية قوية.
كما أن عملية استكشاف شوارعها وأنهجها ودروبها يسيرة وممكنة، خصوصا منطقة سيدي بوسعيد، التي تعج بالزائرين عندما تعتدل الحرارة ربيعا، وترتفع صيفا، حيث تصبح في الصيف غير قادرة على استيعاب زوارها من التّونسيين والأجانب من فرط كثرة المقبلين عليها.
والمتجول في المنطقة يلاحظ دائما، تواجدا للسياح، جماعات، وفرادى، سواء بين مقاهي الرّبوة الثلاثة، أو في دروب الهضبة، حيث تتناثر المساكن، التي تطلى كلها باللّونين الأبيض والأزرق، والتي كثيرا ما تشاهد أمامها سائحا (أو سائحة)، جاحظا بعينيه في استغراق، وهو يتأمل تلك المباني بإعجاب، أو يلتقط لها صورا.
حتى إن المقيم بسيدي بوسعيد، لم يكن يهتم أصلا بهؤلاء الوافدين الذين لا يثيرون فيه أيّ فضول.
كانت المنطقة كلّها مكشوفة، ومفتوحة، ومع ذلك سكنها العديد من الفلسطينيين. ربما لجمالها الساحر، إذ هي عبارة عن منتجع، وربّما لهدوئها الذي يوفر كل الراحة. ولهذا السبب أيضا، سكنها العديد من أعضاء السّلك الدبلوماسي، بمختلف رتبهم ودرجاتهم. ومنهم من أصدر كتبا تصف المنطقة، وتحتوي على صورها.
وفي هذه المنطقة استقرّت أسرة أبو جهاد في شارع، ينتهي بإطلالة على البحر، كما ينتهي عند هضبة، ليس بينها والبحر، إلا طريق تنزل إلى الشاطئ، وتشق شبه غابة صغيرة، لا يتجوّل فيها إلا المغامرون من العشاق.
وعلى بعد أمتار، استقرت عائلة ” أبو مازن”، الذي أصبح من مشاهير العالم، منذ توقيعه على اتفاقيات غزة – أريحا أولا، في حديقة البيت الأبيض الأمريكي ووسط تجمع سياسي دولي رهيب.
وبالنسبة إلى أجهزة المخابرات المعادية، فإن رصد أهدافها بهذه المنطقة، سهل ويسير، إذ لا يتطلّب أيّ جهد استثنائي، ولا يحتاج إلى وسائل كثيرة، ولا يجبر حتى الجواسيس ومنفذي عمليات الاغتيال على التنكّر.
زيادة على أن النّاس في تونس، من مواطنين، ومن مقيمين، قد تعوّدوا حياة الأمان والبعد عن الأحداث السّاخنة، الشيء الذي لم يدفع بهم إلى اكتساب سلوك الحيطة والشك في الوافدين.
فتونس لم تشهد لا اغتيالات، ولا عمليات تقتيل. حتى ضربة حمّام الشط، مرت كالذكرى السيئة، ثم طواها النسيان. إضافة إلى أنّ القادة الفلسطينيين، يشعرون فيها بأمان كبير. فعلاقتهم بالسلطة السياسية، وبالشعب التونسي، أكثر من جيدة.
فلا أحد حشر أنفه في شؤونهم الداخلية، ولا أحد استثمر لحسابه الخاصّ قضيّتهم عربيا أو دوليا.
وكلّ هذا جعلهم في حالة استرخاء ببلادنا رغم أنّ الموساد تصنّفها كبلد هدف، ورغم أنّها توجد وسط قائمة من الدول المطلوب مراقبتها بلا كلل، مع كلّ من ليبيا والمغرب والجزائر ومصر والسعوديّة والعراق والأردن، والإمارات، وسوريا، ولبنان، ورغم أنه كان من المفروغ منه، أن تحظى بأهمية قصوى لدى أجهزة المخابرات الإسرائيلية، ما دامت تحتضن منظمة التحرير الفلسطينية، وتقدّم لها الدعم، وتتركها تعمل، وتتحرّك انطلاقا من أراضيها.
وقد فكّكت الأجهزة الأمنية التّونسية والفلسطينيّة، كثيرا من المحاولات، ومن الخلايا المرتبطة بالموساد.لكن الموساد، كانت قد اخترقت المنظمة ومن قبل في الكثير من المرّات، وحسب المنطق الأمني، بل حتى البشري، فإن الاختراق يظل متواصلا، حتى وإن تدحرج في مستواه إلى ما هو أقلّ أهمية وخطرا.
أما بالنسبة إلى العمليات الخاصة كالاغتيالات، فإن كلّ فرد ومهما بلغ الطّوق الأمني المضروب حوله، يظلّ عرضة لها، وكثيرا ما تتدخل يد القدر وحدها، لتنقذ الهدف في آخر لحظة.
وهذا تتّفق حوله كل النظريات الأمنية. فكيف يكون الحال بالنسبة إلى فرد، لا تتجاوز حراسته الشخصين، يسكن منطقة مفتوحة لكل النّاس، ويقطن في شارع لا يمكن منع الحركة فيه. ويتحرك في مساحة ضيقة، توفر كل إمكانيات المراقبة. هذا إضافة إلى إمكانية أن يكون محيطه أيضا مخترقا.
والحقيقة، وخلافا لما ردّدته وسائل الإعلام الوطنيّة والأجنبيّة، كان محيط أبو جهاد مخترقا أيضا، وبدرجة خطيرة، خصوصا إذا ما كان الطّعم يقوم على لعبة الإغواء التّاريخية ساعتها تكون اللعبة قاتلة، وغير متسامحة.
فالمرأة إذا زُرعت في محيط الهدف، وتمّ الاطمئنان إليها، يصبح الخطر ساحقا، وتصبح إمكانيات النّجاح متوفرة بدرجة كبيرة أمام أجهزة التجسس والاستطلاع.
وللأسف، كان في محيط أبو جهاد، حارس عاشق، كان أحد الرجال الذين يحمونه، يتلهّى بتفاحة بشرية من طراز خطير، ولم يكن يعلم.
فالتفاحة ستقتل الاثنين.
ولولة وصياح، يشقان صمت ليلة هادئة
…في تلك السّاعة المتأخرة، من الليلة الفاصلة بين الجمعة والسبت 16 أفريل 1988، وبينما كان أعضاء الطاقم الطّبي، لمصلحة الاستعجالي بالمرسى ينتظرون في كل لحظة قدوم مريض جديد، رنّ هاتف المصلحة.
وما كاد أحد الممرضين يرفع السّماعة، حتى أتاه صوت امرأة أجنبية، يردّد في اقتضاب وبجدّ:
“هناك من يطلب النّجدة، في شارع الأمل بسيدي بوسعيد” !
ثم عاد الهاتف إلى رنينه. ورغم أن بعض العابثين، من عادتهم التلهّي، بنداءات مغلوطة، توجّه لهذه المصلحة ، فإن أعضاء الطاقم، لم يترددوا في المغادرة فورا.
أما نداء المرأة، فقد أتى على إثر ولولة وصياح، سمعتهما قادمين من الشّارع.
كانت المرأة المولولة والصائحة، في ذلك المساء الهادئ، تردّد في ذهول وصدمة وجزع:
يا عالم، يا عالم، يا ناس أفزعولي !
بهذه الكلمات صاحت ” أم جهاد” في تلك اللّيلة التي قُتل فيها زوجها أمام أعينها، وعيون ابنتها وطفلها الصّغير وخادمتها، ولن تنسى مدى الحياة لحظة مداهمة المنزل التي تتجاوز قصص الخيال، وما تناقلته سيناريوهات السينما والتلفزيون.
شخصيا، لا أزال أتذكّر تلك اللّيلة، بكل تفاصيلها!
فقد أنهيت عملي في حدود منتصف اللّيل إلا الرّبع، وغادرت مقرّ الجريدة، متّجه نحو ضاحية المرسى على متن سيارة أجرة “تاكسي”، حيث كنت أقطن في تلك الفترة، وتحديدا بالشارع الرئيسي الطيب المهيري، الذي يربطها بقمرت، وكنت كثير التردد على ضاحية سيدي بوسعيد، كما كانت تربطني صداقة عارمة وقوية، ولا تزال متواصلة مع أشقاء فلسطينيين-هم أيضا -كانوا يقطنون بسيدي بوسعيد في تلك الفترة.
وقد ازدادت صداقتنا متانة، وأرواحنا قربا، بعد زيارتي للبنان، قبل أشهر، عندما كُلّفت بتغطية حرب، كانت رحاها تدور بلا رحمة بين الفلسطينيين، وميليشيات حركة “أمل”،
… أتاحت لي مهنتي فرصة أن أكون شاهد عيان عن عمق الجرح الفلسطيني في مخيمات بيروت، وصيدا والقرى والمدن المجاورة.
وقد عدتُ من تلك المهمة مريضا ومُنهكا وحزينا…
كانت اللّيلة هادئة. أما نسماتها، فتحمل شيئا من طقس الصيّف، وتعلن عنه قبل موعده. ولم ألاحظ ليلتها أي شيء يدعو إلى الانتباه أو إلى التساؤل. ممّا يدلّ على أن عملية الاغتيال، قد تمّت بحرفيّة كبيرة، وأن الكومندوس الذي نفّذها بارع في مهامه.
حتى في الصبّاح، عندما سمعت الخبر، ظننت أن العمليّة، تمّت خارج تونس، وأن أبو جهاد اصطيد بعيدا عن حدودنا.
لم أدر، أنه في الوقت الذي غادرت فيه العاصمة، وصل القائد الفلسطيني، إلى منزله… وأنه بعد ساعة تقريبا سينضمّ هو بدوره إلى قائمة شهداء الثورة الفلسطينية.
وصل أبو جهاد، إذن إلى منزله. وبعد أن اطمأنّ على أفراد أسرته، الموجودين معه في تونس (فثلاثة من أبنائه يدرسون بالولايات المتحدة الأمريكية) دخل إلى مكتبه، ولم يكد يمرّ وقت طويل على دخوله، حتى نادى على ابنته حنان، وهي طالبة في السّادسة عشر من عمرها، قائلا: ” أريد منك المساعدة على ترجمة هذه الرّسالة، يا حنان…”
قامت حنان بالمهمة مغتبطة، وأعدّت رسالة أخرى بالإنجليزية ردّا على الرّسالة الواردة، بعد أن أملاها الوالد باللغة العربية.
وفي حدود السّاعة الواحدة إلا الربع بعد منتصف الليل، قبّلته، تاركة إياه للعمل، ولمشاهدة شريط خاصّ ورد من الأرض المحتلة عن الانتفاضة.
وبعد ربع ساعة سمعت صوت تحطيم الباب، ظنّت في البداية أنها تحلم، فعادت لنومها.
أفاقت ثانية على ضجيج ركض، ظنت أيضا أنها تحلم.
ولمّا تبينت في يقظتها الضجيج، غادرت غرفتها وأخذت تجري في الممرّ، حيث اعترضها أحد أفراد الكومندوس، نهرها قائلا “روحي لأمك”.
انتابها خوف شديد، بدأت أطرافها ترتجف وعرفت بداهة أنّ سوءا ما مسّ والدها الحبيب.
انهمرت دموعها، أحسّت مبكّرا بالفجيعة، ارتمت في أحضان أمّها المرعوبة. أغمضت عينيها هاربة من هول وبشاعة ما ترى. ولم تفتح عينيها إلا بعد أن اكتملت فصول الفاجعة.
وأنهت الكلاب نهش الأسد!
أمّا الأمر الذي يمزق القلب في تلك اللّيلة، والذي يجعل من عملية الغدر، تراجيديا كاملة، فسؤال الطفل الأصغر لأمه ببراءة:
“…مالو بابا نائم…؟”
لم يتجاوز الطفل سنتين وثمانية أشهر من عمره.
بعد أن غادرت حنان والدها، تركته يعمل وهو الذي كان يتهيأ للراحة، ويستعدّ لمغادرة تونس بعد ساعتين على متن طائرة خاصة في اتجاه بغداد، أحسّ بحركة غريبة في باب الفيلا الداخلي، وعندما استطلع الأمر من النافذة، رأى مجموعة من المسلّحين يلجون الحديقة، كما شاهد حارسه المكلف بالباب الخارجيّ ملقى على الأرض. أخذ مسدّسه وركض في اتّجاه الباب، وركضت وراءه زوجته تصرخ فيه ما الأمر؟ فلم يجبْها.
كان هو في زاوية من الممرّ في الطابق الأول للفيلا، وكانت هي في الجانب الآخر، ولأن أفراد الكومندوس طوّقوه من الخلف والأمام، أصبح لهم هدفا مكشوفا، وفريسة لا يمكنها الإفلات من الفخ.
ولم يستطع ” أبو جهاد” وهو يقاتل رافضا الاستسلام، إلا أن يرمي بخرطوشة واحدة من مسدسه. فقد رشّه الأوّل بالرّصاص، وكذلك فعل الثاني، والثالث والرّابع.
وعندما شاهدت ” أم جهاد” زوجها يترنّح، أدارت وجهها إلى الحائط اعتقادا منها أنهم سيطلقون عليها الرصاص ولم يفعلوا.
وعندما صاحت فيهم :”طخوني معه”، أجابتها امرأة، كانت تسجل عملية الاغتيال بكاميرا فيديو:
“لا، لن نفعل، أنت سوف نقتلك بالمكر والحيلة”!
ولم تكشف “أم جهاد”، إلى اليوم، أمر تلك المرأة، التي كانت من قبل كثيرة التردّد على منزلها، وأنهّا كانت على علاقة عاطفية بحارسهم الشخصي، وبأنها طافت من قبل بأرجاء المنزل كما أرادت واشتهت، وتمكّنت من معرفة تركيبة غرفه، غرفة، غرفة.
لقد تمّ الاختراق الكبير بها، وتحت سحر الأنوثة، وأوهام الرجولة، وقع الحارس الشخصي أولا في غرام المرأة، ثم وقع مرة أخرى لكن بالرصاص، وعلى يد معشوقته !
على يد التفاحة البشرية التي تلهى بها، والتي استطاعت بحلاوة مذاقها، أن تفقده حسّه الأمنيّ المطلوب، تأمينا لحياته، وحياة الذين عُهد له مهمّة وأمانة حراستهم.
وهكذا تكون النّهاية عندما يكتسح الإغواء، المناطق الممنوعة، وعندما يغفل المؤتمن على أمن ثاني شخصية في القيادة الفلسطينيّة، عن سحر القضية والمسؤولية.
ومرة أخرى استطاعت الموساد، بوسيلة تقليدية، أن تزرع السمّ في محيط الهدف، وبأن تجعل من حواء، الخطر الساحق، لكنّه الهادئ والصامت.
المصدر صفحة الدكتورة امال موسي على فيسبوك:
https://www.facebook.com/amel.moussa.376/posts/3534640686562899
Comments