في ذكرى عيد الشهداء: دماء سالت من أجل وطن حرّ .. معاني و دلالات الاحتفاء
شعبان العبيدي
تحتفل تونس اليوم 9 أفريل 2020 بذكرى عيد الشهداء، تخليدا لدماء المواطنين الذين سقطوا برصاص الغدر الاستعماري الفرنسيّ وهم عزّل، على إثر خروجهم في مظاهرتين بقيادة زعيمين وطنيين من زعماء الحركة الوطنية “على البلهوان” و “المنجي سليم”، يمثّلان ثلّة من رجال الحركة الوطنية المستنيرة المؤمنة بالواجب الوطني والتّضحية من أجل استقلاله وحرّية شعبه وإن كانت قد غطّت على هؤلاء الزّعماء الأفذاذ شخصية الزّعيم بورقيبة القائد وأب الاستقلال والدّولة التّونسية الحديثة.
خرجوا يوم 9 أفريل 1938 دفاعا عن حقّ التّونسيين في تقرير مصيرهم عبر برلمان تونسيّ والمطالبة بإصلاحات سياسيّة واجتماعية، وذلك تحت قيادة الحزب الحرّ الدستوري الجديد، والتّوصيات الّتي انبثقت عنه إبّان سقوط حكومة الجبهة الشعبيّة بفرنسا في ماي 1937 وتنكّر السّلطات الفرنسيّة لوعودها بتقديم جملة من الإجراءات المتعلّقة بالحريّات وحقوق التّونسيين، وعودتها إلى منطق العنف والاستبداد.
وجاءت هذه المظاهرة الكبرى في تونس العاصمة استمرارا لتحرّكات نضالية في الجهات التّونسيّة منذ شهر مارس 1937 قادتها الطبقة العمّالية بالحوض المنجمي بالمتلوي والمضيلة، وتصدّت لها السّلطات الفرنسيّة باستعمال الرّصاص الحيّ، والتحرّك العمّالي تحت قيادة جامعة عموم العملة والحزب ممثّلين في القيادي حسن النّوري بالماتلين، واستشهاد الكاتب العام للنقابة ورئيس شعبة الماتلين. ثمّ تواصلت تحرّكات المجموعة الوطنيّة خلال هذه السنّة وصولا إلى جانفي 1938 ، تحركات دفع خلالها التّونسيون أرواحا فداء للكرامة والحرّية والعدل واستقلالية الوطن والقرار التونسيّ.
ولم تقف نضالات التّونسيين منذ ذلك التّاريخ عند هذا الحدّ، بل تواصلت حتّى تحقيق الاستقلال وتكوّن الدّولة الوطنيّة. غير أنّ الصّراعات بين أجنحة الحركة الوطنية وطغيان النّرجسية والذاتية على مفهوم الدّولة المستقلّة عن الحزب والفرد، أنتج معارضة جديدة لهذا الواقع، وكانت مجسّدة في بداية ظهور المعارضة مع اليسار التونسيّ، والاتّحاد العام التّونسيّ للشغل وصولا إلى المعارضة الإسلامية.
انتهت كلّها بالحجر على الزعيم بورقيبة والانقلاب على حكمه، وبداية مرحلة جديدة من ابتلاع الدّولة وتحويلها إلى أداة للهيمنة باستعمال كلّ أشكال العنف مثل دولة تسلطية، كانت نهايتها على يد ثورة شعبيّة عارمة، خرجت فيها كلّ فئات المجتمع مطالبة بالحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعية. واستطاعت كنس نظام استبدادي، والتّأسيس لجمهورية ثانية.
رغم مرور قرابة عشر سنوات على هذه الثّورة، واستعادة ما رافقها من سقوط شهداء في مختلف ربوع البلاد، لم يحصد التّونسيون شيئا يذكر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إلاّ بصيصا من نور حريّة التّعبير. ولذلك يجدر بالتونسيين وخاصّة المتصدّرين للمشهد السياسي ومختلف مكونات الفضاء العام أن يجعلوا من هذا العيد رمزا لاستخلاص العبر، واستجلاء القيم التي التقت فيها نداءات الذين سقطوا دفاعا عليها وهي وحدة الوطن ورفعته وسيادته التّامّة ووحدة التّونسيين حتّى يستعيدوا حقوقهم مع دولة الاستقلال في رفعة القيم والدّفاع عن علم البلاد وحماية مدنية الدّولة وعدالتها وخدمتها للشعب. دولة قادرة على الإقلاع بالبلاد إلى مصاف الدّول المتقدّمة وذلك باستعادة دورها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتّربويّ من أجل بناء إنسان تونسيّ حرّ مبدع، ومنسجم مع روح العصر، منفتح على مجاله العربيّ والإسلامي والكونيّ.
بالرّغم من أنّ هذه الذّكرى تحلّ في مرحلة عصيبة، تواجه فيها البشرية جمعاء ومنها بلادنا وباء جارفا، فإنّ الدّروس واستخلاص العبر من هذه الأعياد الرمزيّة الخالدة، لا يكون بالاحتفالات و الطبول و المزامير والعروض المختلفة الّتي تعوّدنا بها أن تمرّ مشاهدها أمامنا مرور الكرام، بل القيمة من استحضاره ونقله للأجيال وتذكير السياسيين اليوم بتلك الدّماء التي سالت عبر تاريخ تونس الحديث لا يكون الوفاء لها بمجرّد المدائح والمراثي بل بالاتّجاه إلى الفعل السياسيّ المنتج و حماية الدّولة و هيبتها و تجسيد شعار الوحدة الوطنيّة بالابتعاد عن كلّ أشكال الفرقة و التجييش و العداء احتراما لهذا البلد واحتراما للشهداء واحتراما لصورته بين الأمم.
Comments