في ذكرى ميلاده .. الباجي قايد السبسي، ماله وما عليه
المهدي عبد الجواد
تحلّ اليوم ( 29 نوفمبر 2019) ذكرى ميلاد محمد الباجي بن حسونة قايد السبسي الأولى بعد وفاته في 25 جويلية 2019، و تونس التي خدمها من خلال تولى عديد المسؤوليات الكبرى في ادارة البلاد وكان اخرها رئاسة الجمهورية، تعيش على وقع أزمة “تشكيل” الحكومة فضلا عن كونها تواجه تحديات عديدة ومركبة في الداخل وتزداد دقة هذه التحديات وسط المخاطر التي يمر بها الاقليم والتي تهدد بضرب استقراره.
منذ سنة 1952، دخل الباجي رحمه الله، غمار الحياة العامة و الشأن السياسي، و كانت له مشاركات في اعلي مستوى في الدولة في مراحلها المختلفة، قبل الاستقلال و خاصة بعدُه. و لقد تجسدت في الباجي، لأسباب مختلفة الحقبات التاريخية التي عرفتها تونس طيلة تاريخها المعاصر، بما فيها من لحظات مشرقة و أخرى معتمة مُظلمة. و الرجل اليوم بين يدي “مليك مُقتدر” لا تضيع عنده الحقوق، و لا يعرف التشفّي و لا النكران.
لقد أسهم الباجي قبل الاستقلال في معركة التحرير، اسهام المحامي الذي دافع على مناضلين في مختلف المناطق أمام آلة القمع الاستعماري، و تحمّل بعد الاستقلال مسؤوليات جسام في اعلى هرم الدولة، ثم شارك في معركة الحريات و الديمقراطية في سبعينات القرن الماضي، و عاد من جديد ليُساهم في اطلاق مسار الانتقال الديمقراطي و يكون شريكا فاعلا في ضمان التقدم نحو الديمقراطية.
صحيح ان الباجي لم يكن شخصا ثوريا و لا صداميا، و لكنه كان رجلا ذا مواقف، و “المواقف المشهورة” تبقى في التاريخ. و صحيح ايضا ان الباجي رجل سياسية لكن السياسة عنده ليست نظريات و مقولات و مقاربات فلسفية بقدر ما هي ممارسة عملية، و فعل مباشر في الواقع.
لقد اكتشف التونسيون و التونسييات، الاغلبية منهم على الاقل، ذات مساء من سنة2011، رجلا وافدا عليهم من “علبة أرشيف”. مُتحدّث بارع، مثقف كبير، حفّاظ للأمثال و السير و الاشعار و الآيات، ساخر و صاحب “نُكت” و بديهة وقادة.
سحر الباجي الكثير من التونسيين، و “ألّف بين قلوب” و هدّأ النفوس و قاد البلاد الى أول انتخابات ديمقراطية تعددية، و اشرف “بمرارة” على تسليم السلطة، في صورة رمزية تختزل وحدها فكرة الثورة صورة “آخر رجال البايات المخزني و آخر رفاق بورقيبة يسلم الحكم الى حمادي الجبالي رمز الاسلام السياسي و زعيم الاخوان أعداء الدولة الوطنية و ممثلي السيبة”.
و مع الانكسار الكبير و تنامي الخيبة من الاداء الكارثي للترويكا، عاد الباجي “كالفينيق” و اعاد إحياء آمال و أسس نداء تونس، الذي وفد عليه الناس من كل فجّ عميق، دستوريون على تجمعيين على نقابيين فيسار و حقوقيين و مباشرون جدد للسياسة، خلطة عجيبة سرعان ما “شكّلت” هوية سياسية بديعة فازت بانتخابات ثلاث، و لكنها مثلت صوت “الهوية” التونسية التي خاطبها الباجي.
الباجي شبيه بالأبطال الوجوديين، الذين لا يُنهون اعمالهم، لأنها ان تمت فقد ماتت. و لذلك مات المشروع مع باعثه. و تلك قصّة اخرى، سيكشف التاريخ حيثياتها. و لكن الاهم هو ما انجزه الباجي بالنداء في ثلاث سنوات. و سبب فشل غيره في إعادة نفس الظاهرة السياسية و الحزبية. فلم يكن نداء تونس حزبا بقدر ما كان ظاهرة “سوسيولوجية”، و مثّل للمشاركين فيه فرصة تاريخية لبناء حزب و لكنهم فشلوا جميعا بما في ذلك الباجي.
لم نجح الباجي؟ و لم نجح النداء.؟
ببساطة لانهم على صورة التونسيين و على صورة تونس. كلاهما عبّر و بصدق على “الهوية” التونسية. لا شرقية و لا غربية. لقد خاطب الباجي روح التونسيات و التونسيين، و خاطب كبريائهم، و دغدغ مشاعر الافتخار فيهم، و مسّ العناصر المكونة للشخصية التونسية، شخصية عنيدة و لكنها مسالمة، شخصية منفتحة و لكنها مغرورة، شخصية هضمت حضارات و شعوبا و لكنها تعتقد انها مختلفة.
يخشى التونسيون المغامرة، و يخافون التطرف بأنواعه، لهم ايمان ديني غريب، مزيج من تدين على عادات على ممارسات اجتماعية على طقوس يتداخل فيها الدنيوي بالمقدّس، يؤمنون بعروبتهم و لكنهم يسخرون من بقية الشعوب العربية. شعبيون و لكنهم مثقفون. لا يقرؤون و لكنهم يعشقون الشعر و الحكايات و رواية القصص. جهات و عروش و ألقاب قبلية و لكنهم موحدون وراء فريق كرة القدم، و تونس.
وافق شنّ طبقة.
وجد الناس في الباجي ما يبحثون عنه في لحظة “تيه” و خوف. أب كبير يروي القصص و الامثال و يُشعرهم بعمق تاريخ هذي البلاد و بدفء العيش فيها. و كم كان يحلو له تلاوة الآية القائلة…. “فوجدكم اعداء فالّف بين قلوبكم”. لقد كان الباجي المُعبّر الاخير على “الهوية التونسية”.
فتونس ليست جزءا من شيء أكبر منها، و لا عنصرا في أمة اخرى. انها أمة مستقلة بذاتها، و شعبها له خصوصيته و دولته و ثقافته و حضارته و حتى لغته.
و لكن هذا النجاح سرعان ما ذهب حتى قبل ذهاب صاحبه. و يا لخذلان العُمر و نُكران الاصدقاء و زيف الرفاق. فلقد فشل الباجي في تحويل هذه الفرصة التاريخية النادرة الى مشروع سياسي و حزبي مستدام. فشل لا ندري حقيقة، و قد سمح لنا التاريخ ان نكون مشاركين في بناء مشروع الباجي منذ بداياته، هل كان مقصودا ام لا؟ بمعنى هل أراد الباجي فعلا مشروعا لتونس يبقى بعده؟ ام ان كل ما قام به كان مشروعا للوصول الى السلطة؟؟ سيظل هذا السؤال مفتوحا، و نعتقد ان التاريخ سيقول كلمته في ذلك. على أننا نعتقد أن الباجي أخطأ كثيرا و فشل في ثلاث:
- لقد فشل في بناء تنظيم حزبي قوي بشكل ديمقراطي، و نعذره لان “الأهم قبل المهم” اذ كان رهين أمرين، العمر و الانتخابات. و ضعُف امام ابنه و عائلته الذين أحاطت بهم عصابات السوء التي توزعت اليوم بين الاحزاب.
- لم ينجح الباجي في الانفتاح على الكفاءات الوطنية، السياسية و الإدارية و الاقتصادية و الاجتماعية، فقد حصر نفسه و حُوصر بالكثير من الرداءة و أحاط به اللئام الذين استغلوا عتيّ عمره، و لا يُحسب له في محاولته تجديد نُخب الدولة غير الدفع بيوسف الشاهد و سليم العزابي في واجهة السلطة، و هو اختيار سرعان ما أفسدته بطانات السوء.
- لقد فشل في إطلاق مسار مصالحة شاملة، بُعيد فوزه في الانتخابات، مصالحة إجبارية تُغلق جراح الماضي و تدفع بالتونسيين موحدين الى المستقبل.
رحل الباجي. و رحل معه مشروعه. و عادت هيمنة الاسلام السياسي و التيارات الشعبوية على البلاد، و عاد التونسيون الى لحظة اكثر قتامة من سنة 2011، و لا يلوح في الافق باجي جديد.
و كل ما يأمله التونسيون و انا منهم، ان يستلهم الفاعلون السياسيون في العائلة التي جمّع شملها المتنافر الباجي قائد السبسي منه ذلك السّحر و تلك “الصوابع” لإعادة التفكير من جديد في “تأليف القلوب” لان كل ما سوى ذلك موحّد بالضرورة، وواحد في الواقع.
قبل رحيله قال الباجي قائد السبسي “إذا خلا لك الجو، فبيضي و فرّخي” و باض الاسلام السياسي اليوم بل وفرّخ رحمة و كرامة بنا.
و بالمناسبة، نحسبُ أن راشد الغنوشي أكثر المستائين اليوم من غياب الباجي قائد السبسي، لان اللحظة التي نعيش تحتاج فعلا ساحرا ماكرا في مهارة الباجي، و هو الذي كان يقول دائما ان السياسة “فن الصوابع” و انها “تمثلات” و انها “نتائج”. و ثاني المحتاجين اليه هم الاحزاب المنتمية لما يُسمى بالعائلة الوسطية. هؤلاء يحتاجون الباجي، حتى يُذكرهم بثوابت المشروع الوطني. الدولة التونسية و الهوية التونسية و الشخصية التونسية و مشروع الاصلاح الوطني الذي انطلق منذ القرن التاسع عشر. بعضهم أضاع البوصلة و يبحث على تحالفات غريبة. و بعضهم لم يُدرك ان السياسة اكراهات الاهم فيها النتائج و الفائدة.
رحل الباجي. و ستبقى أفعاله. سيحكم التاريخ عليه…. و نحن نذكره نقول فيه قول صدق: كان رجلا عظيما، و العظماء لا يأتون في كل حين.. رحم الله “سي الباجي” رحم الله “البجبوج” كما يشتهي قطاع واسع من التونسيين مناداته.
Comments