في ذكرى وفاته .. فتحي التريكي يكتب عن “فلسفة الشابي”
فتحي التريكي*
كنت دائما عندما يعود بي الحنين إلى قراءة شعر أبي القاسم الشّـابي أشعر بأن هذا الشاعر لم يأخذ حظه من البحث بالرغم عن تعدّد الدراسات والبحوث التي تبدو ظاهريا وكأنها قد عالجت أهم خصائص شعره ولكنها في واقع الأمر تعيد صياغة الدراسات بوجه آخر وقد تكرر ما قيل وما كتب في شأن إبداعاته.
احتفاء بشعره بمناسبة ذكرى وفاته (يوم 9 أكتوبر 1934)، أريد أن أؤكد هنا على العنصر الذي لم يأخذ حظه من الدرس بما فيه الكفاية في كل آثاره ونعني به المسار التفلسفي الذي نجده واضحا في شعره ونثره. فكل قصيدة من قصائده توحي لك بأن الشاعر منذ بداياته كان بصدد بناء فكرة فلسفية تأسيسية لم تظهر بوضوح كامل إلا في قصائده الأخيرة عندما تحدث عن الموت والقوة والتحرر. لذلك بدا لي أن المقاربة الفلسفية لشعره ضرورية إذا ما أردنا معرفة عالمه الإبداعي على الوجه الصحيح.
لا أتحدث هنا عن الملاحظات التي نجدها هنا وهناك عند نقاد الشّـابي والخاصة بالتوجهات الفلسفية لشعره، بل الأمر في رأيي يتجاوز ذلك بكثير لأن المقاربة المطلوبة تحاول الوصول إلى أسّ من أسس شاعريته.
وقد قام محمد حسن زوزي الشّـابي وهو ابن عم أبي القاسم وأستاذ الفلسفة بجامعة باريس 8 بمحاولة في هذا الصدد للتأكيد على هذه المقاربة الفلسفية وذلك في أطروحة الدكتوراه التي ناقشها يوم الأربعاء 17 نوفمبر 2004 بجامعة باريس 8 باللسان الفرنسي تحت إشراف الفيلسوف الفرنسي جاك بولان وبرئاسة الفيلسوف المشهور عالميا آلان باديو. وكنت شخصيا عضوا في هذه اللجنة بمعية الأساتذين جانفياف كلانسي وروني شيرار. أما الرسالة فقد صدرت في كتاب بدار لارماتون بنفس العنوان وهو فلسفة شاعر: الشاعر التونسي باللسان العربي أبو القاسم الشّـابي نموذجا.
في الحقيقة كلما تعرض ناقد بالبحث إلى إشكالية التفلسف عند الشّـابي إلا وأسهب في تأثير شعراء المهجر وأدبائه وفي تـاثير الشعراء الرومنسيين بطريقة غير مباشرة على شعره فأرجع بنية ابتكاره الشعري وإبداع فكره إلى هذا التفكير.
هذه الفكرة غير قابلة للدحض حسب رأينا لأنها لا تفيد أكثر مما تفيده باعتبار أن نشأة إبداع فني لا تكون من لا شيء بل إن عملية الخلق وتواتر سيرورته مرتبطة شديد الارتباط بالتكوين الثقافي والاجتماعي للمبدع.
فالشابي تكون بواسطة روافد ثقافية ومسالك اجتماعية متشابكة. إلا أنه قد أنشأ عالمه الفني الإبداعي من خلال بناء نواة فلسفية حاول ضبطها زوزي الشّـابي في فكرة التحرر التصوفي.
فالصبغة الأولى لفلسفة الشّـابي تكمن إذن في فكرة التحرر. ونحن نعرف أن هذه الفكرة قد كانت الرابط القوي بين فلسفة نيتشه وشاعرية «بول راي» وبين وجودية «هيدغير» وشعر «نوفاليس» من جهة. كما أننا نعرف من جهة أخرى أن الشغل الشاغل لأدباء عصر الشّـابي ومفكريه يتمثل في مسألة التحرر. وليس من الصعب أن نبرهن مثلا على ليبرالية الطاهر الحداد وعبد العزيز الثعالبي والدكتور الماطري وغيرهم من الذين أرسوا قواعد إبستمية للفكر الاجتماعي والسياسي في أوائل القرن الماضي.
لا محالة فلسفة التحرر هي غير فلسفة الحرية. فإذا كانت الثانية مرتبطة بمسائل ميتافيزيقية كبرى فإن الأولى هي إقرار نمط وجود عملي يقوم على استمرارية حركة نضالية لافتكاك الحرية نظرا إلى أن الإنسان في حياته معرض دائما إلى الخضوع والجمود. والشّـابي جعل من حركية التحرر الداخلية الذاتية ضرورة تفرضها عملية الخلق ذاتها. كما دعا في قصائد كثيرة إلى التحرر من العبودية ولاستعمار. ولذلك نؤكد هنا على مركزية فكرة التحرر في شعره ونوافق بذلك أطروحة زوزي الشّـابي. ولككنا لا نوافقه عندما يوجه هذا التحرر نحو الذات الداخلية فقط فيجعل من فكره الفلسفي ذا نزعة صوفية بحتة.
ليس المجال هنا للتعمق في شعر الشّـابي ولكننا نلحظ بسرعة مستويات عديدة لفلسفة التحرر عنده في نثره وشعره. وسأذكرها بعجالة حتى نتمكن لاحقا وفي مكان آخر من تحليلها وتدعيمها.
هناك لا محالة الصبغة الذاتية لفلسفة التحرر عنده والتي يمكن بواسطتها التعرف على الكيفية التي بها يقوم الشاعر بتطهير النفس ومناجاتها. كذلك الشأن بالنسبة إلى تحرير الشعور والخيال من صرامة الفكر والعقل (عش بالشعور وللشعور). وهي الصبغة التي تجعل من فلسفة الشّـابي تأخذ مسارا صوفيا بحكم انتمائه إلى ثقافة عائلية تقوم على روح إسلامية متصوفة. ولا يشك اثنان في مركزية النور في شعره.
وهناك أيضا صبغة أنطولوجية وجودية لفكرة التحرر تجعل موقفه من الحياة موقفا رومنسيا لا محالة ولكن فيه توجه وجودي يعتمد الإرادة والقلق في الآن. وفلسفة القوة والثورة عنده تدخل ضمن توجهه الوجودي الثائر.
هناك صبغة ثالثة لا تقل أهمية عن الصبغتين المذكورتين وتتمثل في الفكرة الاجتماعية والسياسية للتحرر. والشّـابي قد كرس شعره في سبيل النهضة التونسية والعربية التي في رأيه تمر بالتحرر من الهيمنة الاستعمارية لا محالة ولكنها تكمن في التحرر من الجهل والفقر وكل مظاهر التخلف. (والشقي الشقي في الأرض شعب يومه ميت وماضيه حي).
هناك أخيرا صبغة جمالية إيطيقية لفكرة التحرر نجدها عندما يربط الحرية بالنور أو بالزهرة الجميلة أو بالغاب وعندما يجعل من الشعر وسيلة لإنهاض الهمم وتحريك السواكن.
من هنا هل يمكن القول إن الشابي خلق فضاء فكريا جديدا في الثقافة التونسية؟
نعم، لقد خلق الشّـابي فضاءا فكريا جديدا في الثقافة التونسية والعربية يتمثل في الارتقاء بمفهوم التحرر إلى الصبغة الوجودية الحياتية فكان مفتاح الحوار بين الشعر والفلسفة وكان محركا لفهم جديد للحرية يقوم على تحرير الخيال والنفس ولكنه يقوم أيضا على إرادة القوة والفعل لهيمنة الإنسان على الطبيعة وعلى الحالة الاجتماعية والسياسية للحياة.
لم يكن الشابي فيلسوفا بطبيعة الحال ولكنه قد فتح من خلال عمل الحدس كما يقول برغسون وبفعل الوجدان والإحساس مجالا فلسفيا لم ينتبه له الفلاسفة عندنا وهو مجال التحررية الذي جعله الشّـابي تأصيلا للوجود الذي تضافرت فيه ثقافتنا الأصيلــة والثقافات التي أفرزتها الحداثة.
للأسف لم يكن هناك في عصر الشّـابي من تفاعل فلسفيا مع شعره وقام بتنظير فكرة التحررية، بل لن تجد في الفكر النهضوي العربي من قام بالتفلسف حقيقة واعتمد هذه الفكرة على منوال ما قام به مثلا فلاسفة أمريكا اللاتينية الذين قد حاولوا من خلال أدبهم وفكرهم ونضالاتهم بناء ما نسميه الآن بفلسفة التحرر. وهي حركة فلسفية متواصلة تهدف إلى فهم كل مجالات الوجود الإنساني من خلال فكرة التمازج الثقافي حيث تثري كل ثقافة ترد عليهم ثقافة متواجدة داخل حضارتهم فتتكون لهم أصالة تتحرر عن الماضي دون نفيه كما تتحرر عن كل الثقافات الأخرى الواردة عليهم لتكون ثقافة بديلة هي بالنسبة إليهم ثقافة الحرية والنضال. ولهذه الثقافة أبعاد مختلفة ومنها البعد الروحي الذي ربطها بالتيولوجيا المسيحية.
لقد حاول الشّـابي بشعره أن يحدث حوارا شعريا وفلسفيا مع تراثه من خلال توجه نقدي تجديدي كما حاول البحث عن السعادة وهو تحت وابل القلق والشقاء وكأنه في حالة تنقيب عميق عما به يحصل على التحرر النهائي الذي يرفع شأنه نحو منزلة الإنسان الحقيقي، إنسان القوة والوجود ويقربه من المنزلة العليا للوجود وللنور الإلهي. لكل ذلك كانت فلسفته هي فلسفة التحرر المتواصل تأصيلا لوجوده وتحديثا لمصيرنا.
*المصدر: هذا النص نشره الدكتور فتحي التركي في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بمناسبة ذكرى وفاة الشابي
Comments