في ذكرى يوم القدس العالمي .. بورقيبة والقضية الفلسطينية
ماجد البرهومي
من المشاهد الخالدة في تاريخ تونس صور الزعيم بورقيبة بمدينة بنزرت سنة 1982، وهو يستقبل مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية القادمين إلى تونس من لبنان وذلك للترحيب بأبطال حصار بيروت الذين أجبرتهم القوى الدولية الغاشمة على الرحيل. كان يوما مشهودا أكد فيه بورقيبة ارتباطه بالقضية الفلسطينية، والذي بدأ منذ لقائه في روما، إبان الحرب العالمية الثانية بالحاج أمين الحسيني، و تدعم مع العون الذي لقيه الزعيم التونسي من الصحفي الفلسطيني محمد علي طاهر حين تواجد في القاهرة في إطار كفاحه من أجل التحرر، باحثا عن دعم الجامعة العربية، حديثة التأسيس، للقضية التونسية.
لقد علم الصحفي الفلسطيني محمد علي طاهر سنة 1945 بوجود الزعيم الحبيب بورقيبة في القاهرة التي وصلها هاربا من المستعمر الفرنسي عبر مركب من جزيرة قرقنة التونسية إلى الأراضي الليبية ومنها برا إلى مصر وبحث عنه حتى وجده في فندق صغير ومتواضع. ومنذ ذلك التاريخ توطدت الصداقة بين الرجلين ومكن الطاهر الزعيم التونسي من التعرف على الطبقة السياسية في مصر ومن التواصل مع الجامعة العربية، وتم تكريم الصحفي الفلسطيني أكثر من مرة بعد استقلال تونس وأطلق إسمه على أحد أنهج العاصمة التونسية بسبب ما قدمه لبورقيبة من خدمات خلال مرحلة الكفاح.
يقول عمر الشاذلي طبيب بورقيبة الخاص في كتابه بورقيبة كما عرفته في حديثه عن لقاء الطاهر ببورقيبة في القاهرة: “ذات صباح من سنة 1945 كان بورقيبة يستعد لمغادرة مبيته المتواضع في القاهرة إذ سمع رجلا يتوجه إلى الفندقي ذاكرا إسمه بصوت عال، فقال بورقيبة هو أنا ذا ما شأنك. فتقدم الرجل و بين أنه صحافي فلسطيني إسمه محمد علي طاهر و أصبح صديقا وفيا لبورقيبة فيما بعد و كان يدير جريدة في القاهرة إسمها الشورى وهو يهتم بالحركات التحريرية ببلاد المغرب و خاصة بحزب الدستور التونسي الجديد و بلغه عن طريق مصالح الجامعة العربية وجود بورقيبة في القاهرة فأشار عليه الصحافي أنه لا يأمل الدخول إلى الأوساط السياسية بالقاهرة إذا واصل السكن في مبيت متواضع. فتولى الأمر لفائدته مرتبا له المواعيد مع شخصيات مصرية و أجنبية في نزل كونتينونتال”.
كما تعود علاقة بورقيبة بالقضية الفلسطينية إلى زيارته المثيرة للجدل إلى الضفة الغربية، في مرحلة سبقت حرب جوان 1967 التي احتل فيها الكيان الصهيوني القدس والضفة والجولان وسيناء، وإلقاء بورقيبة لخطاب في أريجا أثار الكثير من الإنتقادات وهو ما جعل قطيعة تنشأ بينه وبين جمال عبد الناصر وأنصاره. وبقيت هذه الزيارة وما حصل وقيل فيها إلى اليوم محل خلاف وجدل على غرار صاحبها الذي كان حاسما وجريئا لا يهاب الآخرين ولا يخشى ردود أفعالهم إذا تراءى له أنه على صواب، وقد تراءى لبورقيبة يومها أن القبول بقرار التقسيم هو مرحلة للإنطلاق نحو التحرير الشامل لفلسطين.
لكن أصحاب النفوس المريضة أسبغوا عليه تهمة العمالة بعد خطاب أريحا الشهير واجتزؤوا ما شاؤوا من استراتيجيته الشاملة لتحرير فلسطين وركزوا فقط على دعوته للقبول المؤقت بالتقسيم. وأهملوا البقية الباقية من خطته والمتعلقة بمواصلة حرب العصابات بوتيرة متسارعة والضغط الديبلوماسي والإعلامي دون كلل أو ملل وتجنب المواجهات المباشرة بين الجيوش النظامية باعتبار التفوق الصهيوني على الجيوش العربية، وإعطاء سلطة القرار للفلسطينيين انفسهم دون التدخل في شؤونهم ودون الكف عن دعمهم عربيا.
لكن البعض جرفتهم العواطف وأمعنوا في الخطب الرنانة دون إعمال للنعمة الإلاهية، المتمثلة في العقل البشري، ما أدى في نهاية المطاف إلى النكسة وخسارة المزيد من الأراضي. وأثبت التاريخ لاحقا صدق نوايا بورقيبة، فهو الذي استقبل الفلسطينيين قيادة ومقاتلين على أرض الخضراء حين ضاقت بهم بعض العواصم العربية. وحين قصف مقر قيادتهم في حمام الشط كان بورقيبة رغم تقدمه في السن حاسما ورجل دولة بكل ما للكلمة من معنى لا يهاب القوى الكبرى، استدعى السفير الأمريكي وأعلمه بلهجة حازمة أنه إذا استخدمت بلاده حق النقض الفيتو على مشروع قرار في مجلس الأمن يدين إسرائيل فإن تونس ستقطع علاقاتها الديبلوماسية مع الولايات المتحدة، وهو ما جعل واشنطن تمتنع عن التصويت وعن استعمال حق النقض أيضا.
لقد كان بورقيبة متميزا عن باقي حكام وملوك ورؤساء العرب في عصره، فهو أكثرهم ثقافة وعلما ومعرفة في ذلك الوقت، وهو المحامي الحائز على الشهائد العليا في الحقوق والعلوم السياسية من جامعة السربون الفرنسية، وهو الصحفي والكاتب السياسي والمحلل الإستراتيجي الذي أدرك باكرا طبيعة موازين القوى في الشرق الأوسط، ووضع الهدف الأسمى نصب عينيه وهو تحرير فلسطين، لكن الوسيلة للوصول إلى هذا الهدف كانت مختلفة عما روج له الباقون. فكما ساهم في إيصال التونسيين إلى الإستقلال التام على مراحل (الإستقلال الداخلي، توقيع وثيقة الإستقلال التام، إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، تونسة الإدارة والمؤسسات، تجميع الجيوش الفرنسية المنتشرة في البلاد تدريجيا في قاعدة بنزرت، معركة الجلاء وإخراجهم من بنزرت، تأميم الأراضي الزراعية وطرد المعمرين الفرنسيين) رغب في إقناع الفلسطينيين بذات التمشي، أي القبول بقرار التقسيم والمطالبة لاحقا بالمزيد دون الكف عن المقاومة المسلحة.
ففي زيارة أداها بورقيبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في شهر ماي سنة 1961 استقبل فيها من الرئيس جون كينيدي قال الزعيم بورقيبة متحدثا عن القضية الفلسطينية ما يلي: “كل العالم يعلم أن إسرائيل تشكل نوعا جديدا من الإستعمار فالمسألة لا تتعلق بتسلط دولة على دولة أخرى ولكن هناك شيء أسوأ وهو تعويض شعب بشعب آخر. فالناس الذين يعيشون في فلسطين هم الآن في نفس الوضع الذي وجد فيه اليهود أنفسهم طيلة الحرب العالمية الثانية لما كان النازيون يضطهدونهم، والفلسطينيون هم الآن في المحتشدات في وطنهم وتشعر إسرائيل الآن أنها قوية جدا. فإذا بقيت المنظمات العالمية عاجزة عن إيجاد حل عادل لهذه القضية فإن المقاومة المسلحة ستنتصر في فلسطين وما حدث في الجزائر سيتكرر هناك”.
و في القمة العربية بالقاهرة سنة 1964 قال بورقيبة عن القضية الفلسطينية ما يلي: “القضية الفلسطينية ليست نزاعا فحسب بين اليهود والعرب وإنما هي قبل كل شيء قضية شعب سلبت منه أرضه عنوة وعوضه فوقها أناس وافدون من كل مكان وليس بينهم من رابط سوى علاقات عرقية مسبقة وتعصب ديني وهم يتصورون إيجاد علاج يجمع الشتات مستعملين الإضطهاد ومسيلين الدماء وحاكمين على شعب بتشتيته هو الآخر. هذه هي القضية الفلسطينية الحقيقية وهي التي لا تختلف في شيء في جوهرها عن القضايا الإستعمارية، وهي تشبه إلى حد بعيد قضية إفريقيا الجنوبية حيث الأفارقة يعيشون منبوذين على أرضهم نفسها، والمأساة الفلسطينية يمكن أن تكون أشد شناعة ذلك لأن المعمر الصهيوني يرمي إلى التخلص من القليل الباقي من السكان الأصليين حتى يبقى بمفرده في البلاد.
فالقضية الفلسطينية هي إذن مسألة استعمارية وكل خصائص المشكل الإستعماري توجد فيها مجتمعة. وإذا قبلنا هذه الحقيقة الأولى ينجر عنها أنها يجب أن تعالج بوسائل تشبه تلك التي استعملتها الشعوب المستعمرة لتتحصل على استقلالها وتحليل هذه الوسائل يكشف لنا أن النصر في أية حالة من الحالات لم يكن نتيجة حرب تقليدية بين جيوش مكونة تكوينا عاديا إنه دائما نتيجة مقاومة طويلة و منتشرة يؤكد أثناءها الشعب الذي يرفض الإستعمار المسلط عليه عزيمته على الثبات ما يلزم من طول الوقت ويقبل أثقل التضحيات و يصمد بشتى الوسائل إلى حد يضع فيه المحتل في إحراج. يجب أن توجد في الداخل مضايقات مستمرة للمستعمر واضطرابات متواصلة وضغط يتطور في نهاية الأمر إلى انتفاضة، ومن الخارج حملات سياسية تهدف إلى عزل العدو على الصعيد الدولي وإظهاره بوجهه المقيت والتنديد بأفعاله التعسفية قصد تأليب الدول ضده ودعوة أخص حلفائه إلى الإقلاع شيئا فشيئا عن دعمه ودفعه في النهاية إلى البحث عن حل ملائم لميثاق العالم المتحضر.
لا يمكن للعرب أن يحققوا المطلوب ماداموا مصممين على الإعتماد على حرب تقليدية تكون فيها إسرائيل بإمكانياتها الداخلية والخارجية اللامحدودة أقوى منا جميعا مجتمعين. مركز المقاومة يجب أن يكون في فلسطين في قلب المدن و في الصحراء و في الجبال ولا وجود لطريق آخر إذا أردنا أن نكون جديين في عملنا ومخلصين لأقوالنا وإذا كنا حقا عازمين على رفع التحدي ووضع حد لهذا التحقير الذي أذل جميع العرب. و خارج سياسة المراحل لا توجد في الحالة الراهنة وسائل ناجعة فسياسة المراحل لا تعني بتاتا التخلي عن الهدف أو قبول أي حل بالتراضي كبر أو صغر شأنه بل عكس ذلك فإنها ترمي إلى احتلال مراكز استراتيجية يساعد التمكن منها على التطور والتقدم بقوة على الأرض نحو الهدف المنشود.
فلا وجود لتداخل ممكن بين هذه المنهجية التكتيكية والسلوك المعروف بإسم “اقبل ما تعطى وطالب بالبقية” فهذا مدنس بالخنوع وبهذه العقلية الإستجدائية التي تدعو إلى قبول أي شيء في انتظار الحصول على أكثر. فالضروري عند المسؤول هو الفصل بين التراضي الإيجابي أو الثوري القابل لتسهيل التقدم وتقوية الكفاح و بين التراضي الكاذب الذي يعطل التقدم و يغلق المنافذ و يغير أحيانا من مسار الكفاح الطبيعي”.
كانت المواقف واضحة وجلية ولاغبار عليها ولكن البعض خشي من منافسة على الزعامة ومن خروج القضية الفلسطينية من دائرة نفوذه، فشن الحملات المغرضة على الزعيم التونسي وانتهى الأمر بنكسة تتالت بعدها نكسات في هذه القضية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.
Comments