في سلفية النخب السياسية .. الحنين للماضي لا يصنع المستقبل
هشام الحاجي
غالبا ما لا يقع الاهتمام بالأبعاد النفسية- الاجتماعية عند التعاطي مع الوقائع و الظواهر السياسية رغم اهمية هذه الابعاد . و قد ادى تغييب هذه الابعاد الى عدم التمكن من ادراك الاسباب العميقة لحالة الاستعصاء التي نعيشها في تونس في السنوات الاخيرة و التي تكاد تحول “الاستثناء التونسي” الى عائق امام التطور و التقدم و تكاد تجعل منه “متاهة تاريخية ” يصعب الخروج منها.
ذلك ان ما يشبه الاجماع يكاد يحصل ان ما حدث يوم 14 جانفي 2011 يمثل حدثا يصعب تصنيفه وفق القوالب النظرية التي تقولب التعاطي مع الثورات و الانتفاضات و المؤامرات و المناورات.
و لكن صعوبة التصنيف سرعان ما تحولت من “مكسب” يتعين توظيفه لتسريع سير التاريخ الى “عائق ” هيكلي و هو ما يفسر الى حد كبير حالات التعثر و التوتر و العطالة و الهدر التي تعيش على ايقاعها الرتيب و المؤلم تونس في السنوات الاخيرة.
يكشف تحليل بعض المعطيات المتناثرة ان هذه الظواهر المرضية ترتبط بخيط “رقيق” و لكنه خانق و هو هيمنة الحنين على المغامرة النظرية و المبادرة السياسية . تعددت مظاهر “الحنين ” ايديولوجيا من خلال الاحالة الى “اسلام البدايات” كمرجع و هدف و الى “ماركسية النص” كدواء و كوصفة اشد فعلا من “يسار التحريف”.
استحضر البعض دولة الخلافة الراشدة و اعاد اخرون الاعتبار لبورقيبة وهذا الاستحضار تجاوز مجرد الاستفادة من الماضي حتى يتم اثراء “بدائل” المستقبل ليتحول الى عملية قياس الحاضر على الماضي مع كل ما يعنيه ذلك من اخضاع الحاضر بكل حيويته الى سرير بروكست الذي يضحي بكل ما في اللحظة الراهنة من ثراء و حيوية و تنوع و اشكاليات مستجدة.
و في تقديرنا فان العجز عن تجديد الطبقة السياسية يعود الى هيمنة “عقلية الحنين” التي تؤدي الى صعوبة اجتراح حلول للمستقبل لان ابرز الفاعلين السياسيين و المجتمعيين يتفاعلون مع الحاضر باليات تفكير الماضي القريب و البعيد و رواسبه النفسية القاتلة لأنها تحمل الكثير من الضغينة و الرغبة في تصفية الحسابات.
و يكفي ان نعود الى توقف الباجي قائد السبسي عند “خيانة ابناء المنستير” و “انزعاجه ” مع الذين خدموا الدولة في عهد بن علي لنتأكد من التأثير السلبي للحنين في السياسة هذا دون ان ننسى “الحنين و عدم القطع مع الماضي” هو الذي يفسر جانبا من اسلوب “التشفي” الذي يتهم به الكثيرون ومؤسسة العدالة الانتقالية و رئيستها سهام بن سدرين .
اما راشد الغنوشي فلم يتمكن لحد الان من احداث القطيعة المعرفية مع المسلمة الاساسية و الاشد خطورة للتيار السلفي و هو اعتبار ان حركة النهضة تقوم على الايمان ” بما هو معلوم من الدين بالضرورة” و هو ما يحول عمليا دون الفصل الحقيقي و الواضح بين ما هو دعوي و ما هو سياسي.
و يمكن ان نعدد طغيان “الحنين” بشكل واع او لا واع الى ما لا نهاية في حياتنا السياسية و تكفي الاشارة هنا الى اختيار يوم الخميس يوما للإضراب العام و هو ما يمثل “استعادة ” في المخيال النضالي لخميس اول اضراب عام في تاريخ تونس المعاصرة و ان نضيف حنين قطاعات من المواطنين الى عهدي الحبيب بورقيبة و زين العابدين بن علي رغبة في استعادة ما يعتبرونه حضورا اكبر للأمن و ظروفا افضل للطبقات الشعبية و للدولة الراعية.
ان عدم التخلص من اسر الحنين الذي يوفر شعورا كاذبا بالاطمئنان سيؤدي الى العجز عن انجاز ثورة حقيقية في جميع المجالات و الى مزيد الشعور باضطراب الديمومة فيتحول الماضي الى سجن للوعي و الحاضر الى متاهة و المستقبل الى سبب من اسباب الخوف و الخشية.
Comments