الجديد

قضايا غالية بثمن رخيص

خالد شوكات

أذكر جيّدًا عندما أعلن يوسف الشاهد حربه الفجئية ضد الفساد، ما قلته حينها بأنّ الرجل سيسخّر قضية مقدّسة من أجل ربح تافه وسريع. كانت عين الرجل حينها على الافلات من ورطة “الكامور”، فقد التفّ الحبل حول رقبته وترنّحت حكومته فاشلة لأيام تكاد تسقط من سوء صنيعها، فقامت بطانته السيّئة بنصيحته “أن اخرج الورقة يا يوسف” فأخرجها وما كاد يفعل..

لقد قامر الشاهد برصيد الأمّة الاخلاقي من اجل ان يبقى سنة او سنتين في الحكم زيادة، وما غادر يوسف القصبة حتى “شلّكَ” الورقة المقدّسة بعد ان حوّلها الى “مسخرة”، وبعد ان اختزل الفساد في “صاحب المعزة” و”سيّد المقرونة” و”شوية كناترية” وضعوا في الاقامة الجبرية، ثم اطلق سراحهم بعد ان اكتشف عامة الناس ان جرائم “الكونترة” هي جرائم ديوانية وضريبية لا تقتضي عقوبات سالبة للحرّية.

بل لعلَّ قمة الافتراء الذي ما تزال كثير من صفحاته لم تكشف، ان يرفع الحاكم شعارات مكافحة الفساد من اجل التغطية على اكثر مرحلة في تاريخ الدولة المستقلة تغلغل فيها الفساد في اجهزة الدولة وبين نخبها الحاكمة. ان تعلن مقاومة الفساد من أجل ممارسة الفساد فهذه سيرة واقعية غير مسبوقة تعبّر عن عقلية “فهلوية” قد تتفوق على عقلية الشيطان.

ثاني القضايا الغالية التي بيعت – وما تزال رخيصة- هي قضية “البورقيبية”، فمعاوية لا يكفّ عن الظهور في تاريخ العرب بأشكال مختلفة كلِّ مرّة. عبير ترفع صور الزعيم بورقيبة مطالبة بالثأر له من قتلته، قتلته المزيفين لا قتلته الحقيقيين، بورقيبة بملامحه الفاشية والإقصائية المزيفة وليس ملامحه الحقيقية كرائد للواقعية السياسية والاعتدال والوسطية،

وليس من ثمن لهذه البيعة البائسة سوى قبض ثمن أكثر بؤسا، عدد إضافي من المقاعد البرلمانية ربّما او عضوية في حكومة فاشلة جديدة. وبدل ان يكون الزعيم بورقيبة عنصر توحيد للتونسيين كما كان دائما اضحى مجرد صورة فوتوغرافية يحملها متحيّلون سياسيون يستغلون بؤس الناس وشقاءهم وعاطفتهم لتسخيرهم في معارك الحقد ومحارق الكراهية،

فيا لبورقيبة من قضية غالية تسام بأبخس الاثمان. ثالث القضايا الحق التي يراد بها باطل، قضية اجبار المستعمر السابق على الاعتذار، وهي قضية حق فعلا لان الاستعمار كما الاستبداد يستحق ان يحاكم ويدان، فهو زارع كل رذيلة ومرتكب كل جريمة، ولكن الامر كان يستحق ان يطرح عندما تكون شروط الانتصار ميّسرة ومضمونة، وعندما يكون الاجماع الوطني ثابتا، وعندما يكون المناخ الاقليمي والدولي مواتيا،

اما وان يطرح بهذه الطريقة ليسجِل به فريق من التونسيين هدفا ضيِقا ضد فريق اخر من التونسيين فذلك لعمري منتهى الاستهتار بمصالح بلادنا العليا وأنانية ما بعدها انانية. خلاصة القول، ان ضحالة الفكر السياسي وانحطاط المستوى الاخلاقي وغلبة الرداءة على الكفاءة في أوساط النخبة السياسية، لا يمكن الا ان يقود الى مزيد من التلاعب بالقضايا الاساسية للبلاد، ومزيد من تضييع المصالح الوطنية الكبرى، في سبيل إشباع غرائز سياسية جامحة ليس في وارد ان تعي جرائمها بهذه السيرة العفنة في حق الاجيال الحاضرة والمستقبلية.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP