الجديد

قيس سعيد .. الانقلاب الديمقراطي

المهدي عبد الجواد

قبول قيس سعيد المشروط بمبادرة الاتحاد للحوار هو “انقلاب ناعم” على المسار السياسي، ومقدمة للدخول في مرحلة “اعادة التأسيس” يروم قيس سعيد اعادة انتاج هيئة حماية الثورة التي ترأسها عياض بن عاشور……عبر اشتراط “حوار اصلاح مسار الثورة ومشاركة ممثلي الجهات.

ويبدو ان رئيس الجمهورية، اختار طريقة ذكية للتخلص من مأزق الحوار الوطني مثلما طرحه اتحاد الشغل ونادت به قوى سياسية واجتماعية ومدنية اخرى. فقد فتح تأخر رد رئيس الجمهورية على مبادرة المنظمة الشغيلة قبولا او ايجابا، المجال واسعا للتأويلات التي ذهب بعضها للحديث على “اهانة” الرئيس للمنظمة، ووصل الامر الى حد الحديث على برود و بوادر قطيعة بينهما، وزاد عرض المبادرة على راشد الغنوشي “خصم الرئيس” تلك الاشاعات وجاهة.

قبل الرئيس بعد اكثر من شهر بمبادرة الاتحاد، في لقاء مع امين عام المنظمة. قبول لم يخرج في الحقيقة على الجوانب البروتوكلية، إذ ان الرئيس قبل بمقترح الاتحاد “نحان ملام” اكثر منه اقتناعا بالحوار وايجابياته، ولا ايمانا اصلا بجدواه. لقد سبقت موافقة الرئيس تكهنات كثيرة، تواترت بعد تصريحاته المتكررة حول “إقصاء الفاسدين” في خطاب تعويمي تعميمي، تجاوز فيه رجل القانون صلاحيات القضاء، وانتصب بديلا عنه ليقسم التونسيين والتونسيات، وليحكم عليهم بحسب “اقاويل الفايس بوك”.

تكهن الجميع بانفراج في “مسلسل الحوار” بعد ايقاف نبيل القروي، باعتباره الموصوم بالفساد، وهو ما يطرح اكثر من سؤال حول استقلالية القضاء وحول مدى تحرره من تأثير السلطة التنفيذية واكراهاتها السياسية. خرج سعيد ليمنح الاتحاد بيد الموافقة على الحوار، ويسحبها بيده الاخرى.

فالشروط التي وضعها الرئيس للحوار تفرغه من كل مضمون سياسي، بل تجعله ادخل في باب الانقلاب على الشرعية والالتفاف على نتائج الانتخابات، منه في باب حل للاحتقان السياسي. فاعتقاد الرئيس ان الحوار السياسي هو لاصلاح “مسار الثورة الذي تم الانقلاب عليه” و اشتراط “مشاركة شباب الثورة” هو في جوهره رفض للحوار، وافراغ لمبادرة الاتحاد من محتواها.

لقد عاش التونسيون منذ عشر سنوات مسارا سياسيا ودستوريا طويلا صعبا ولكنه انتج اربع انتخابات شفافة ونزيهة، مكنت تونس من ترسيخ قيم التداول السلمي على السلطة، كان وصول قيس سعيد نفسه للرئاسة علامة مضيئة عليها، والحديث على “انقلاب على الثورة” هو مجرد خطاب شعبوي يستهدف غرائز الفئات التي لم تكسب شيئا من الثورة، خاصة منها التي تحطمت احلامها في التغيير الاقتصادي والاجتماعي. قيس سعيد يقف مع “الذئب” ويبكي مع “الراعي”.

يستفيد من المسار السياسي ويروم عدم دفع ثمن الفشل الاقتصادي، والحال انه بعد سنة من انتخابه لم يقم بغير الخطابة بلغة عربية سقيمة. ان حوار “اصلاح مسار الثورة مع شباب الثورة من مختلف معتمديات الجمهورية” سيكون اعادة انتاج لهيئة عياض بن عاشور. لكأن قيس سعيد يحقق هدفه بإطلاق مبادرة اعادة التأسيس. انه حوار الانقلاب على المسار السياسي والدستوري.

يبدو ظاهريا ان قيس سعيد قبل مبادرة الاتحاد ولكنه قام من خلالها بنسف عشر سنوات من عمر التجربة الديمقراطية، ويبدو انه من الافضل للجميع القبول بكون الحوار فشل قبل انطلاقه بدل التورط في مسار مجهول النتائج وغير واضح الآليات، خاصة وان الرئيس استمال لفريقه محمد عبو وحركة الشعب، وهما لا يخفيان رغبتهما في الانقلاب على كامل المسار الديمقراطي.

بقي ان حركة النهضة التي تدفع في اتجاه مشاركة حليفيها قلب تونس وائتلاف الكرامة تظل احد المفاتيح المهمة في انجاح الحوار، خاصة وان راشد الغنوشي استبق القبول المشروط للرئيس بالحوار، بالتاكيد على ان كل حوار يجب ان يحترم شروط الديمقراطية وارادة الشعب، وانه يجب ان يكون واضح المضمون بين الآليات ومحدد الآجال.

ان ما يجري اليوم في تونس هو علامة اخرى على “نكبة الانتقال الديمقراطي”، فقد تصدى لاستكمال المسار نحو الديمقراطية من لم تكن له علاقة البتة بمساراتها، و برز مدافعون على الثورة ممن لم يؤمن بها اصلا ولم يذكرها في خطاباته ولم يشارك ثانية في وقائعها. ولعل هذا التعثر السياسي والقطيعة العميقة بين التونسيين ونخبهم السياسية راجع بالاساس الى كون كل “سياسيي يغني على ليلاه”.

فلا يجب ان نستبشر كثيرا بما ورد اليوم من قبول الرئيس بالحوار، اذ لا يعدو ان يكون الامر مجرد التفاف آخر على مسيرة الاصلاح، وبوادر انقلاب خطير على مسار ديمقراطي متعثر أصلا.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP