قيس سعيد .. “الشعبوية” في جلباب “الثورجية” !
منذر بالضيافي
بعد 14 جانفي 2011، حصل اجماع لافت داخل الطبقة السياسية، تمثل في اختيار ان يكون الانتقال السياسي، يستند الى الدستور والقانون، وهو ما جعل الباحثين والمتابعين، يصفون ما حصل في تونس ب ” الثورة الدستورية”، اي ضمن اطار يحترم الدستور، وليس عبر ما يطلق عليه الماركسيين ” العنف الثوري”.
ولعل هذا ما يفسر انحسار “الخطاب الثورجي” سواء في أوساط النخب أو في المجتمع، تفسره حالة أفول الأحزاب والتيارات التي تقوقعت وراء مصطلحات وخطابات ثورية.
ولعل هذا ما ضمن انتقال سلس للسلطة ، من اخر وزير أول زمن حكم الرئيس بن علي الذي قامت عليه الثورة، الى من قبل به “ثوار القصبة”، واعني هنا الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، الذي قاد مدة انتقالية اعد فيها البلاد لانتخابات، قبل الجميع بنتائجها وسلم السلطة في محفل ديمقراطي، لحزب النهضة الاسلامي الفائز في انتخابات اكتوبر 2012، وهي حينها كانت محسوبة على “التيار الثوري” بل متصدرة له.
واستمر بقية مشوار الانتقال السياسي، ضمن الاحتكام لشرعية الشعب عبر الانتخابات ، الى حين قدوم الرئيس الحالي قيس سعيد، الذي اتت به صناديق الاقتراع ، وهو ما يحتم عليه ضرورة احترام الاليات القانونية والدستورية التي مكنته من الوصول لقصر قرطاج.
ويكون ذلك اساسا وفي المقام الاول عبر احترام الدستور، وخصوصا باب النظام السياسي، الذي هو شبه برلماني، ويعد فيه رئيس الحكومة صاحب السلطة التنفيذية الواسعة، مع استشارة قرطاج في شؤون الدفاع والعلاقات الخارجية، ونؤكد على استشارة لا “تفرد” القصر بهاذين المجالين الهامين، مثلما حصل مع الباجي قايد السبسي بعد انتخابات 2014، المشهود له باحترام الدستور، حتى أثناء أحلك فترات صراعه مع حكومة الشاهد بدعم من راشد الغنوشي.
وبالتالي فان احترام الصلاحيات المنصوص عليها في الدستور، هو اساس استمرار ما تم التعاقد عليه بعد الثورة، أيا كان موقف ساكن القصر من النظام السياسي ومن الدستور، فالرئيس قايد السبسي عبر في أكثر من مناسبة على رفضة للنظام السياسي البرلماني، لكنه احترمه ولم يخطط أو حتى ينوي “الانقلاب” عليه.
وهذا للأسف لم يحصل في العشرة اشهر من حكم قيس سعيد، حيث ظهرت انزلاقات واضحة ومفضوحة، في محاولة توظيف مركزه لخدمة مشروعه السياسي، وما يعني ذلك من تأويل منفرد وعلى المقاس للدستور، شجعه علي ذلك غياب محكمة دستورية.
كما أن ما شجع قيس سعيد على “المرور بقوة” لتنفيذ “أحلامه”، مرده فشل الاحزاب السياسية وخاصة النهضة في تشكيل حكومة بعد انتخابات اكتوبر 2019، ما جعل المبادرة السياسية ترجع الي قرطاج في تعيين ” الشخصية الاقدر” لرئاسة الحكومة.
ومن هنا شرع الرجل في تنفيذ مشروعه على الارض، عبر لي ذراع الدستور بجعل رئيس الحكومة مجرد وزير اول، مجرد من كل صلاحيات اعطاها له الدستور، وهو ما برز أساسا مع رئيس الحكومة الحالي هشام المشيشي.
اذ تدخل القصر بشكل علني في اختيار جل الفريق الحكومي، في مخالفة صريحة للدستور، كما عمد الى ” اهانة” ساكن القصبة ، وهي اهانة مقصودة بدأت فصولها من تركيبة الحكومة، وفرض وزير الثقافة “المتعفف” رغما عن المشيشي، ووصلت منتهاها حد التدخل السافر و الفج في حق المشيشي في اختيار مستشاريه وفريق ديوانه.
وهذه المرة تحت عنوان ” ثوري” فيه استعادة لخطاب الترويكا في اشهرها الأولى، خطاب لا نعرف له سابقة في تاريخ “صاحب قرطاج”، اذ انه لم يعرف عنه معارضة للنظام السابق، او تصدر او حتى مشاركة في الحراك الثوري.
وفي خطوة مزجت بين “الشعبوية” و”الثورجية” ، وفي خطاب متلفز من ستة دقائق أمام رئيس حكومة يتلقى بإذلال الدرس في اخراج مقصود تتجاوز رسائله الرجل الذي أمامه الى من يقدر أنهم خصومه الذين يتامرون عليه بالليل والنهار ويخططون للتسرب لمفاصل الحكم وفق روايته التلفزية.
ضمن هذا الاخراج الغير متعارف عليه في تقاليد الأمم والدول ومناهج الحكم، خرج على التونسيين “رئيسهم المفدى” في خطاب متلفز مثل اهانة للدولة، من خلال شخص رئيس الحكومة، الذي وضعه من اختاره في مأزق.
فإما القبول بالرضوخ و الطاعة له، أو الارتماء في أحضان “خصومه” في الائتلاف البرلماني، أو الاستقالة ليستمر “العبث” في مسلسل تشكيل الحكومات، الذي سيزيد في منسوب حالة عدم الاستقرار وضعف الدولة وتفككها، في زمن كارثي تمر به البلاد ، تتداخل في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية ، مع وباء بدأ يحصد أرواح الناس الذين يودعون يوميا أحبابهم واقاربهم.
ضمن هذا الواقع المتأزم الذي يفترض “الهدنة” والمرور للانقاذ قبل ان يسقط السقف على الجميع وتتحول البلاد التونسية الى دولة مفلسة وفاشلة، خرج المعني بردم هوة الانقسامات والمفروض انه الساهر على وحدة المجتمع، ليقرا علينا خطابا ثوريا ، استند فيه الى تصفية حسابات مع النظام السياسي والمنظومة الحزبية وايضا مع رموز الدولة، خطاب لم يكن مفاجئا من الرجل الذي نهل من معين “الشعبوية”، وبلا منجز يذكر بعد حوالي سنة من اعتلائه سدة الحكم.
Comments