قيس سعيد رئيس مُنْذ سنة .. لا عزاء
المهدي عبد الجواد
” إذا خسرنا الحرب لا غرابة…
لاننا ندخُلُها بكلّ ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة…”
نزار قباني
تحلّ هذه الأيام الذكرى الأولى لتولي السيد قيس سعيد مقاليد الرئاسة، في جمهورية تونس السعيدة. سنة مرّت بلا أثر فعلي لتواجد هذا الرجل “المجهول” على حياة ملايين التونسيين والتونسيات الذين “بايعوه” في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية.
لقد تولّى سعيّد الرئاسة مدفوعا بآمال وأحلام ملايين الناخبين الذين ظنوا فيه الرجاء، وتوسّموا فيه القدرة على إحداث فارق حقيقي في حياتهم. سنة مرّت وشرعت عقاربُ الأمل تدور نحو خيبة أخرى مُدوّية، لعلها ستكون أكثر أثرا هذه المرّة وأشدّ إيلاما.
في الداخل التونسي .. معارك مع الجميع
لم ينجح الرئيس قيس سعيد في ملء وظيفته الأولى بصفته رمز وحدة الدولة التونسية ووحدة شعبها. فقد تميّزت سنته الأولى بمعارك مع الجميع. مع الأحزاب والنّخب والنواب والإدارة. حربٌ مع الآخرين. وعودة بسيطة الى خطاباته نكتشف بسهولة تواتر ضمائر الغائب “هو/هم”، حيث ترتبط بهم كل الصفات السلبية ويُحمّلون مسؤولية “المؤامرات في الغُرف المُظلمة”.
دخل قيس سعيد في صراع لم ينته بعد مع مجلس نوّاب الشعب ورئاسته تحديدا. وليس خافيا على كلّ مُتابع حصيف للمشهد السياسي اكتشاف حالة القطيعة شبه الكُليّة بين الرئيس وكافة المكونات الحزبية بل وحتى المنظماتية، فباستثناء الأمين العام لاتحاد الشغل، لا يلتقي الرئيس بغيره، إلا من أعلن بوضوح معاداته لحركة النهضة وشيخها مثل نقيب الصحفيين السابق.
لم يسعى الرئيس أبدا طيلة سنة إلى فتح ملفّ الماضي ولا إلى تصفية تركته التشريعية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الإنسانية النفسية، فلم ترد في كل خطاباته إلا عبارت التأثيم والتجريم، بل تجاوز بعض القيم الكونية لحقوق الإنسان مثل قرينة البراءة والحق في محاكمات عادلة، فانتصب محلّ المحاكم ليمنح صكوك الغفران ويكيل الاتهامات للجميع، مانعا إياهم من خدمة بلادهم حتى من “باب النصيحة والمشورة”.
سنة اولى تميّزت ايضا بالتزام الرئيس بما “يطلبه المستمعون”، حيث كان في كل زياراته يخطب في الجماهير اليائسة والمحرومة والمُفقّرة بما يتوجه الى الغرائز والوجدان وليس الى العقول.
خطابات تحثّ تستثمر في آلامهم وتدعوهم الى الخروج على المؤسسات والقانون، فهم “يعرفون ولا تخفى عليهم خافية…يعرفون ما يريدون ويمكنهم تنفيذ ما يُريدون”. بمثل هذه السفسطة اللغوية، والشقشقة الجوفاء كان الرئيس يكتفي باللغة.
لغة تُحاول ان ترتقي الى درجات الفصاحة فلا تبلُغها إذ يكثُر فيها اللحن وتتكدّس الأخطاء النحوية بشكل يُسيئ الى بلاغة اللغة العربية، مثلما يُسيئ الى دور مؤسسة الرئاسة التعبيرة الدستورية العُليا على مصلحة هذه الامة ومصلحة دولتها.
لذلك يبدو الرئيس اليوم في عزلة داخلية كبيرة، ترجمها كثرة الاستقالات/ الإقالات في الديوان الرئاسي، إذ لم يبق فعليا من الفريق الذي بدأ مع الرئيس منذ سنة أحدٌ. ولعلّ عودة الرئيس الى التواصل المباشر مع بعض رفاقه في حملته التفسيرية علامة أخرى على هذه العُزلة.
الرئيس سجين نفسه وسجين تصوراته للعالم. رؤيته للأحداث الوطنية ولخطورة اللحظة التي تعيشها تونس محدودة، ففي الوقت الذي تُواجه فيه البلاد تحديات خطيرة في كل الميادين، يلتزم الرئيس الصمت او يكتفي بتأليب الشعب على بعضه البعض وبإثارة الصراعات مع الاشباح والاوهام.
في الخارج .. عزلة ومخاوف
شكّلت تونس استثناء فريدا بين الدول التي شهدت “انتقالا” نحو الديمقراطية. وكان الاهتمام الدولي بتجربتها فريدا، و تظافرت جهود الجميع لمساعدة هذه التجربة الديمقراطية على النجاح.
فقد ضُخّت اموال طائلة من الاتحاد الاوروبي ومن الولايات المتحدة ومن البنوك الاقليمية والمؤسسات المالية الدولية، لمساعدة تونس على تجاوز ازمتها الاقتصادية ومن اجل توفير مناخات اجتماعية تُساعدها على خلق “أمان اجتماعي” وبيئة استقرار ديمقراطي.
وكانت الاستقبالات الضخمة شديدة الحفاوة تُنظّم على شرف الرؤساء ورؤساء الحكومات التونسيين حيثما حلّوا، وكانت الدعوة تتم آليا لهم للمشاركة في كُبرى القمم والمنتديات والتظاهرات الدولية، من قمة السبع الكبار الى قمة العشرين الة منتدى دافوس اضافة الى غيرها من المناسبات.
كل ذلك صار اليوم بفضل رئيسنا “السعيد” جزءا من الماضي التونسي. فتونس في عزلة دولية حقيقية، زادتها تعقيدا ظروف التواصل الدولي بفعل جائحة الكوفيد. لكن ما رشح من انطباعات لدى صُنّاع القرار الفرنسيين إثر زيارة السيد الرئيس الى فرنسا، والتي كشفتها جريدة le canard enchainé، أمر خطير فهو ” منفصل على الواقع، وتصريحاته غامضة ومتناقضة”، ولا يخفى على الجميع ان مثل هذه الانطباعات تُؤثّر في طبيعة التعاطي الخارجي مع تونس، ناهيك ان فرنسا ماتزال دولة مؤثّرة في السياسات الاوروبية والدولية ولها نفوذ واسع في تونس باعتبارها الشريك الاقتصادي الاول لتونس، وباعتبار العلاقات الثقافية و التاريخية المتجذرة بين البلدين.
هذه العُزلة تخفّ قليلا، فالرئيس يحتفظ بعلاقات طيبة مع الامير القطري ومع الرئيس التركي، علاقات تطرح تساؤلات جدية حول طبيعة علاقة قيس سعيد نفسه مع القوى المحافظة في تونس.
ففي كل المعارك التي تعلقت بالحريات او بحقوق الانسان التزم الرئيس الصمت، بل انه كشف في الكثير من تصريحاته مواقف محافظة و”رجعية” في علاقة بقانون الميراث و المساواة فيه، أو في مسائل أحكام الاعدام والحريات الفردية.
سنة طويلة مرّت من تاريخ تونس، عجفاء مثل سابقاتها، لكن تواجد قيس سعيد يزيد في مخاطر الانجرار نحو صراعات هامشية أخرى، تُفاقم النزعات الانفصالية في الجهات وتُؤلّب الشباب اليائس على المؤسسات، وتزيد من مخاطر الانفلات الامني والانفجار الاجتماعي.
سنة للنسيان، ولكنها تدعو كل القوى الحية في البلاد، وكل المؤمنين بالدولة التونسية باعتبارها اهم مكاسب التونسيين الى الحذر. الحذر والانتباه استعدادا لكل طارئ قد يجعل كيان الدولة في خطر.
Comments