قيس سعيد: عهدة جديدة .. لمرحلة جديدة / تقدير موقف /
منذر بالضيافي*
أكدت نتائج رئاسيات 2024، التي دارت يوم الأحد 6 أكتوبر، في دورة واحدة فاز بها الرئيس قيس سعيد، بعهدة جديدة ستمستر لخمسة سنوات أخرى، على أن تونس دخلت فعلا مرحلة جديدة من تاريخها السياسي الحديث، مرحلة بدأت فعليا منذ الاعلان عن نتائج رئاسيات 2019، وتأكدت مع “لحظة 25 جويلية”، وجاءت نتائج الاستحقاق الرئاسي الاخير لتؤكد ذلك مرة أخرى، لتمر تونس معها من مرحلة “التأسيس السياسي” الى مرحلة “البناء و التشييد” ( شعار الحملة الرئاسية للمرشح قيس سعيد ).
هذه النتائج لم تفاجئ، كل مراقب موضوعي ومطلع على الواقع السياسي و المجتمعي التونسي، سواء من جهة حجم المشاركة الشعبية – أكثر من مليوني تونسي صوتوا للرئيس سعيد – أو من جهة النسبة المرتفعة – 90 فاصل 96 بالمائة-، لتعبر بذلك عن تجديد الثقة والشرعية و الاستمرارية معا، في المسار الذي اختاره الرئيس سعيد، الذي قام بتفكيك “ارث المرحلة السابقة” ( العشرية وما قبلها ) سياسيا و اقتصاديا، ويستعد في العهدة الثانية للمرور ل “البناء و التشييد” ( شعار الحملة الرئاسية ).
تأشيرة العبور للتغيير
تعطي نتائج رئاسيات 6 أكتوبر للرئيس سعيد تأشيرة الاستمرار للعبور الى “التغيير”، الذي يعد في تصوره استكمال للمسار الثوري الذي انطلق في 17 ديسمبر 2010، وهو ما أكد عليه عقب الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية، اذ قال إن ما تعيشه تونس اليوم “هو استكمال للثورة”.
وأضاف خلال زيارته لمقر حملته الانتخابية بالعاصمة تونس ( مساء الأحد 6 أكتوبر ) “سنطهر البلاد من الفاسدين والمفسدين والمشككين والمتآمرين”، وفق تعبيره. وشدد سعيد على أن “الشعب التونسي أظهر وعياً عميقاً وصعوداً شاهقاً في التاريخ غير مسبوق”.
مرة أخرى، أقدر اننا دخلنا عهدة جديدة في اطار مرحلة ( cycle ) جديدة سوف تستمر، فالقديم برمته ( إعلام ، احزاب ومجتمع مدني ..)، اصبح من الماضي، بل ان استمراره اصبح يمثل عبئا على “حلم التغيير”، فلا يمكن بناء الجديد بالقديم ( رموز وشخصيات و تنظيمات …)، وهذه من أبرز رسائل المسار السياسي الجديد، والذي أعطته نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة زخما اضافيا.
فالمرحلة الراهنة تونسيا، في سياقاتها المحلية و العالمية، اقدر انها ما زالت تستمد شروط بقائها واستمرارها، ولعل اهم منجز لها – وهو هام جدا- يتمثل في: انقاذ ” الدولة” من التفكك و “المجتمع” من الانفلات” و ” التشظي “، عبر إيقاف “حالة الانفلات” السابقة عن “لحظة 25 جويلية”.
كما أنه لا يمكن فهم ما يحصل، إلا في سياق التحولات العميقة و الجذرية التي تحصل في رحم المجتمع التونسي، و ايضا التي تحصل من حولنا وفي العالم، والتي تتميز بتراجع “الديمقراطية الليبرالية” التي تقوم على سطوة ونفوذ الأحزاب، لصالح خطاب وطني – سيادي، مركز في سلطة محورية قوية، وهذا في تناغم مع المزاج المجتمعي التونسي، الذي هو “مزاج رئاسي”، وهو ما يفسر أحد أسباب فشل “تجربة الانتقال السياسي”، التي وضعت كل بيضها في المراهنة على “نظام برلماني”، أدى الى تشتيت السلطة وبداية تفكك الدولة من الداخل.
سياقات رئاسيات السادس من أكتوبر
بالعودة الى الجدل، الذي رافق رئاسيات2024، نجد أنه يعبر عن صراع سياسي اولا واخيراً وليس قانوني ، مثلما تذهب لذلك غالبية النقاشات، وهو صراع بدأ منذ تم الاعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية 2019، بين “النخب القديمة ” ( احزاب، منظمات و مجتمع مدني وايضا اعلام )، و”مشروع الرئيس قيس سعيّد”، الذي استطاع ترجمته وتنزيله دستوريا و مؤسساتيا خلال السنوات الثلاثة الماضية.
و ما انتخابات السادس من اكتوبر، إلا حلقة من مسار اصبح واقعا معاشا مجتمعيا / محليا ، و ايضا معترفا به ومتعامل معه خارجيا، بل تحول لمنصة استقرار عند شركاء تونس الرئيسيين ( اوروبا و الولايات المتحدة )، برغم تعبيرهم العلني عن “تحفظات” ( تنامي التعاون مع الصين و روسيا ) وهي ” تخوفات” لم تعطها الدبلوماسية التونسية اهمية، واستمرت في نهج “تنويع الشراكات”، و التأكيد على سيادية و استقلالية القرار الوطني.
عرفت تونس ايام قليلة قبل 6 اكتوبر ( موعد الانتخابات الرئاسية) “حراك مدني”، حامل اساسا لشعار “المطلب الحقوقي”، وبتنشيط من المجتمع المدني، برغم الحضور الباهت لبعض “الناشطين السياسيين التقليديين ” من التقدميين و اليساريين، وتواصل تردد وتخفي الحضور لجماعة الاسلام السياسي، بعد افول “جبهة الخلاص”، التي تصدرت قبل اشهر معارضة الرئيس سعيّد سياسيا و ايضا في الشارع.
ولعل السمة الغالبة للتحرك “المدني/ الحقوقي” – الذي سبق الاستحقاق الانتخابي – كونه احتجاج شبابي ( غضب و انفعالات في مشهد استعراضي شبابي) ، وكأي سمة متعارف عليها لكل “حراك احتجاجي”، فانه برز دون افق سياسي، الذي هو أصلا مسؤولية المجتمع السياسي اساسا، هذا “المجتمع السياسي” المنهك ( بعد تجربة حكم و انتقال سياسي فاشلة )، وهو ما جعله محل مطاردة بلعنة “وصم” يصعب الفكاك منها، جعلته بلا حاضنة مجتمعية، بل مرفوض شعبيا ، وهو ما أكدته نتائج رئاسيات السادس من أكتوبر.
هذا فضلا على انه ( المجتمع السياسي) يعاني من ازمة هيكلية مزمنة: تتمثل في غياب احزاب سياسية قوية ومهيكلة وحاملة لتصورات وبرامج و ذات قيادة معلومة و تسير بطريقة ديمقراطية، وضع عرته وكشفته الترشحات للرئاسيات الأخيرة، اذ طغت ظاهرة ” الطموحات الشخصية”، في محاولة فاشلة لاستعادة واستنساخ تجربة قيس سعيد، وتعبير عن حالة عجز القوى السياسية ” المنظمة ” ( الاحزاب ) عن تقديم ” مرشح جدي” وبعنوان سياسي أو ايديولوجي واضح ومعلوم.
و لعل ما يفسر ان الفضاء السياسي التونسي منهك ومفكك وبلا تنظيمات قويّة ( فراغ سياسي كبير ولافت )، تمثل في كون الحقل السياسي شغله بعد “الثورة” تياران محسوبان على الماضي، الاول محافظ/ رجعي – الاخوان- و الثاني تاريخي/ ماضوي – التيار الدستوري – ، وكلا التيارين ، عملا على ملأ فراغ تنظيمي في “حراك ثوري”، بلا قيادة وبلا برنامج وبلا خطة عمل وتحرك لليوم التالي .
لذلك لم تحصل القطيعة المرجوة من “الفعل الثوري”، وكانت الاستمرارية هي المهيمنة، لان كلا من “الاخوان” و “الدساترة”، جماعات و احزاب تواصل لا قطيعة . وبالتالي كان الفشل المركب الذي ترجم مجتمعيا، من خلال خيبة امل كبرى في المجتمع السياسي، فكان الذهاب نحو البحث عن حلول من خارجه، من هنا نفهم صعود الرئيس قيس سعيد ، و اختراقه كل الطبقة السياسية التقليدية / القديمة و الوصول للحكم.
الاستقرار و الاستمرارية
بعد 5 سنوات، جاءت نتائج الانتخابات الرئاسية التي دارت الأحد 6 أكتوبر، لتبرهن على ان الوضع الجديد مازال سيتمدد، لان الشروط و السياقات التي اتت به ما تزال مستمرة، ولان المجتمع السياسي- الذي يمر بأزمة بنيوية كما اشرنا- عاجز عن خلق البديل، فضلا عن سياق اقليمي ودولي “مناسب” للاستمرار، بل أنه يفضل الاستقرار في المنطقة على ” المغامرة”، وكذلك تراجع خطاب ” نشر / تصدير الديمقراطية”، الذي ميز مرحة العشرية السابقة، و الذي لم يكن يعبر لا عن مطلب أو دينامية مجتمعية، وهو ما يفسر أفوله.
لذلك اشدد على ان تونس دخلت منذ انتخابات اكتوبر 2019 في مرحلة جديدة ، ستستمر وتتواصل عبر عهدة رئاسية ثانية، وانه لا سبيل للعودة ل ” حالة ” ما قبل 25 جويلية 2021، حتى في ظل عدم تبلور “الجديد”، وحتى في ظل “مقاومة القديم”، الذي يأبى الانصراف.
و في الاثناء ستكون سمة المرحلة التي تلي انتخابات السادس من اكتوبر تحت عنوان ” البناء و التشييد”، ما سيجعل منها فرصة للتفرغ الى خدمة المجتمع، عبر اعادة تفعيل الخدمات الأساسية التي تقدمها الدولة، والتي شهدت تراجعا كبيرا في قطاعات حيوية كالنقل و الصحة والتربية و التعليم ….
وهذا ما شدّد عليه الرئيس قيس سعيّد، خلال لقائه ظهر يوم الإثنين ( 8 أكتوبر 2024 ) بقصر قرطاج، مع رئيس الحكومة كمال المدوري، وهو اللقاء الأول بعد اعادة انتخابه لعهدة جديدة، حيث أكد “على ضرورة مضاعفة كل المسؤولين لجهودهم والمرور إلى السرعة القصوى لتلبية حاجيات المواطنين، لاختصار المسافة في الزمن وفي التاريخ، ورفع شتى أنواع التحديات”.
كما أبرز رئيس الدولة، “ضرورة تخطّي كل العقبات ومراجعة عديد التشريعات بفكر جديد وبعزيمة لا تلين، “فتونس دخلت مرحلة جديدة في التاريخ، وعلى كل المسؤولين أن يكونوا في الموعد لتحقيق طلبات الشعب المشروعة”، وفق بلاغ صادر عن رئاسة الجمهورية”.
وأكد “أن انتظارات الشعب كبيرة ولا بدّ من العمل على تحقيقها، وخاصة في استرجاع الدولة لدورها الاجتماعي، مضيفا أن الشعب أبرز وعيا عميقا بدقّة المرحلة، ولا بدّ على كل مسؤول على أي مرفق عمومي أن يكون مثالا في البذل والتعفّف والعطاء، وأن يجد الحلول السريعة.”. ( راجع بلاغ الرئاسة المنشور على صفحتها الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ).
لتكون بذلك العهدة الثانية، أكثر معبرة عن عنوان توجهات المرحلة الجديدة، التي أريد لها أن تقطع مع اسلوب الحكم الذي ساد خلال العشرية السابقة و ما قبلها أيضا، اذ أكد الرئيس سعيد في أكثر من مناسبة، على أن تراجع الخدمات الأساسية للدولة وتركز الثروة في يد عدد من العائلات و اللوبيات، يعود الى حقبات سابقة، في اشارة الى زمن حكم ما قبل الثورة أيضا، في دلالة مهمة على الأزمة المبكرة التي دخلت فيها الدولة الوطنية.
عهدة جديدة .. تحديات جديدة
ومن هنا فان العهدة الجديدة، لابد أن تكون في تناغم مع انتظارات الناس، الذين أعطوا ثقتهم مرة اخرى في الرئيس سعيد وعاقبوا معارضيه، وذلك عبر تحويل شعار “البناء و التشييد”، الى واقع في حياة الناس، وهو ما يتفرض ادارة وحوكمة جديدة، تقوم على التناغم بين حيوية المبادرة الخاصة، في ظل مراقبة دولة قوية وقادرة على تأمين وظائفها الأساسية، وهي المعادلة التي أشار اليها رئيس حملة الرئيس نوفل سعيد في حوار للاذاعة الوطنية ( الثلاثاء 8 أكتوبر 2024 ) عندما شدد على “أنّ الناخب الذي منح صوته لقيس سعيّد ينتظر تحسين حياته اليومية والقضاء على التشغيل الهشّ وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي”. وأضاف: بأنّ “الرئيس لا عداء له بتاتا مع المبادرة الخاصة هو فقط ضد توظيف مقدرات الدولة لخواص بعينه وللوبيات”..
وقال: ”بإمكانك كمستثمر الربح دون الاستيلاء على مقدرات الدولة من أجل لوبيات ومجموعات ضغط ومصالح ضيقة”، متابعا: ” الفاعل الاقتصادي تونسي كان او أجنبي يجب أن يعمل ويستمثر وسنرفع عنه العراقيل عبر التدخل في نسبة الفائدة المديرية التي ارتفعت بشكل مشط وتسهيل الإجراءات في المقابل سيتم التصدي للتشغيل الهش وضمان حقوق العمال”..
لقد أكد نوفل سعيد على ثوابت سياسة الرئيس قيس سعيد، وفي ذات السياق بعث برسائل طمأنة للفاعلين الاقتصاديين، وهي رسالة أكثر من مطلوبة لتحريك النشاط الاقتصادي والتنموي، ومواجهة التحديات المركبة التي تواجهها بلادنا، التي منها ما هو داخلي ومنها ما هو مرتبط بحالة الهشاشة التي عليها بقية اقتصاديات بلدان العالم، والتي يتوقع أن تزداد هشاشة، في ظل تصاعد المخاطر و الصراعات الجيو سياسية.
كما شدد نوفل سعيد على مسألة مهمة و أساسية لتحقيق الاستقرار ، الذي يمكن من استئناف النشاط و العمل وعودة “ماكينة” الانتاج، وذلك من خلال تأكيده على أنّ “التهدئة السياسية مطلب ملح ويجب تركيزها وتنفيذها والتوقف عن المناكفات”، وفق تعبيره.
ودعا مدير حملة الرئيس قيس سعيد إلى الالتفاف على المشروع الوطني الذي يتمثل في ”لحظة 25 جويلية” القابلة للتعزيز بمختلف المشارب السياسية قائلا: ”تونس لكل التونسيين مهما كانت أفكارهم مختلفة”..
وتابع: ”25 قاعدة قيمية لجمهورية جديدة يمكن أن نلتقي حولها، ولابد من طيّ صفحة التشكيك والتجاذبات، قد نختلف وهو طبيعي ومطلوب لكن يجب أن نختلف داخل لحظة 25 جويلية”.
وهذا الخطاب يؤسس لمصالحة وطنية حقيقية، تكون في انسجام وتناغم مع ثوابت المشروع السياسي للرئيس سعيد، القائم على السيادة واستقلالية القرار الوطني و التعويل على الذات، وعدم الخضوع للابتزاز، ومراعاة مصلحة تونس أولا.
ما بعد الانتخابات
مثلما أكدنا في هذه الورقة التحليلية ( تقدير موقف )، فان نتائج رئاسيات السادس من أكتوبر، أكدت دخول تونس لا في عهدة جديدة فقط، بل أيضا في مرحلة جديدة، مرحلة انطلقت في الواقع منذ صعود الرئيس سعيد للرئاسة في أكتوبر 2019.
وتدعمت مع “لحظة 25 جويلية”، على أن أهمية نتائج الرئاسيات الأخيرة، كونها ستكون مدخلا لأحداث قطيعة مع العشرية التي تلت الثورة، واعلان عن بداية حقبة سياسية جديدة في تاريخ تونس الحديث.
فهي تتويج لمسار سياسي كامل انطلق بعد 25 جويلية الفارط، واستكمل بنائه في 6 أكتوبر 2024، معلنا عن بداية مسار تنموي تحت شعار “البناء و التشييد”.
وتجدر الاشارة هنا، الى أن “اللحظة السياسية” طالت اكثر من اللزوم في تونس ( من 14 جانفي 2011 الى 6 أكتوبر 2024 )، وساهمت بالتالي في انهاك المجتمع والدولة، وهو ما تفطن له الرئيس سعيد، ليختار الاعلان عن التفرغ في قادم السنوات الى البناء.
في المستوي الدولي والخارجي، بينت السنوات الثلاث الأخيرة، قدرة الدبلوماسية التونسية على مراقصة الخارج المنتقد او المتحفظ وكذلك المتفاعل ايجابيا، مستفيدة من وجود رئيس منتخب ديمقراطيا في بلاده، ومستفيدة ايضا من تناقضات مكونات المشهد الدولي، وتنوع واختلاف مصالح دوله وتجمعاته الاقليمية.
دون ان نغفل على ان القوى الخارجية، لا تعطي اهمية إلا للقوى، ولمن يدير الدفة، و انها لا تقيم وزنا إلا لحقيقة الواقع، لذلك فهي تتعامل مع دينامية الواقع التونسي، الذي يديره رئيس منتخب في المقام الأول، لا مع معارضة ضعيفة ومشتتة وبلا حاضنة شعبية.
*منذر بالضيافي، كاتب صحفي وباحث في علم الاجتماع السياسي
Comments