قيس سعيّد.. وسؤال إعادة التأسيس؟
بقلم: خالد شوكات
في غمرة الصراع الذي خضته كعضو في الحكومة وناطق رسمي باسمها، من أجل الحفاظ على أوّل حكومة للجمهورية الثانية، أخبرني رئيس الحكومة الحبيب الصيد آنذاك إنه عرض على رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي رحمه الله، اجراء تعديل دستوري تعدّه الحكومة وتعرضه على البرلمان للمصادقة، وهكذا نقوم بتحويل نظامنا السياسي من “شبه برلماني” إلى “شبه رئاسي”، ونحيل فيه رئاسة السلطة التنفيذية إلى رئيس الجمهورية بالكامل، على ان يتولّى مجلس نوّاب الشعب وظيفة الرقابة على الرئيس وهو ما سيحول دون تحوّله الى مستبدّ كما يخشى البعض.
لم يقبل الباجي بالمقترح، هكذا قال سي الحبيب الصيد، فقد كان خوفه من ان يقال “تغوّل” او “استغل” وهو المكلف بحماية الدستور من كل خرق، أو ربّما قدّر ان الوقت لم يحن للإقدام على هذه الخطوة، على الرغم من قناعته بان هذا النظام السياسي المعتمد ليس مناسبا لتحقيق أهداف الوطن العليا، بما في ذلك القدرة على استكمال مسار الانتقال الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة في الكرامة والعدالة الاجتماعية.
وربّما يكون عوّل على “الحل السياسي المؤقت” متمثلا في الاستعانة بمهاراته الشخصية لفرض نظام رئاسي او شبه رئاسي من الناحية العملية، ولعل النيّة في ازاحة الصيد والإتيان بالشاهد كانت في تثبيت هذا الحل المفترض، قبل ان تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، عندما قرّر الاخير، اي الشاهد، ليس فقط عدم القبول بخطة وزير أول بل المضي الى نظام برلماني صرف يكون معه رئيس الحكومة صاحب القرار.
فيما دفعت الأحداث المتتالية رئيس الجمهورية الى زاوية لم يألفها، حتى ان بعض الخبثاء لم يترددوا في القول بان ذلك كان وراء التعجيل بنهاية الرجل. لقد اثبتت تجارب السنوات الخمس الماضية ان هذا النظام السياسي الذي أتى به دستور 26 جانفي 2014، لن يحقق الغايات الوطنية المرحلية، وعلى رأسها التنمية المنشودة التي تحتاج الى سلطة تنفيذية قوية وفاعلة برأس واحدة، قادرة على أخذ القرار المناسب، ليس لمواجهة مظاهر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة فحسب، بل لتنفيذ الاصلاحات الكبرى المرجوة والضرورية لإنقاذ الاقتصاد والديمقراطية والثورة معا.
فتونس محتاجة الى قائد يتحمّل المسؤولية امام الشعب ونوّابه، له تفويض ديمقراطي للإقدام على الخطوات المستوجبة العاجلة لإيقاف هذه السياسات الترقيعية الفاشلة وتجديد ادوات العمل الحكومي وأساليبه وفرض هيبة القانون وإشعار المواطنين بالتغيير.
لقد كانت لي تجربة في العمل مع الرؤساء الثلاثة، وأكاد اجزم ان أيّاً منهم لم يكن يشعر بالراحة في العمل، أو بانه الحاكم المسؤول، فقد كان كلّ واحد فيهم متوجّسا ومتردّدا وغير قادر على إنفاذ ما يراه مناسبا وفيه صالح الوطن، وهو وضع شاذ ومرضي، لم يعي مشرّعوه انه يتضمّن قدرا كبيرا من الشماتة في المصالح الوطنية، ومغامرة مستمرة بالدولة والثورة ومسار الانتقال الديمقراطي.
وما انا متيّقن منه تماما أن المؤسسين (خصوصا الإسلاميين منهم) قد أقاموا القواعد الدستورية لهذا النظام السياسي الهجين من منطلق هواجس الخوف من عودة الاستبداد، ولا ريب في انه اذا ما استمر الحال على ما هو عليه قد يفضي هذا النظام الى تحقيق عكس الغاية منه وعلى نحو قد يجعل من عودة الاستبداد مطلبا شعبيا وضرورة من ضرورات الأمن القومي، فما تحمله الغيوم الملبّدة في سماء الوطن والمنطقة، وما تعبّر عنه شرائح اجتماعية عريضة حيال متاعبها المتراكمة وتراجع المرافق وانهيار القدرة الشرائية امام غلاء الأسعار وانهيار الدينار، يجعلنا امام ضرورة اعادة التأسيس.
لقد رفع الرئيس الجديد قيس سعيّد هذا الشعار، اي اعادة التأسيس، ولكن احدا لا يستطيع معرفة كنه ومضمون وحدود اعادة التأسيس لدى هذا الرجل الظاهرة، القادم الى قصر قرطاج من خارج الطبقة السياسية، والذي يوجد في محيطه اناس يحملون افكارا ومرجعيات متناقضة، تتراوح بين اسلاميين راديكاليين ويساريين فوضويين، مضاف الى كل ذلك هذه الشذرات القليلة الواردة في تصريحات “الاخ القائد”، التي ذكّرت البعض بشعارات الجماهيرية والزعيم الراحل معمر القذافي رحمه الله وخطبه المثيرة للجدل السابقة لزمانها ربّما، من قبيل “اللجان في كل مكان” وحزبي الوحيد هو “الشعب”.
وما اود قوله ان اعادة التأسيس المطلوبة وإعادة التأسيس التي يحملها الرئيس سعيّد قد لا تكون نفسها، وهو ما سيعمّق الحيرة المستقبلية و يُقوِّي من احتمالات الصدام مجددا بين الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية.
ان حسن النيّة قد يحملنا على افتراض التماهي بين ما هو مرجو من تعديل دستوري يرسي نظاما سياسيا مناسبا لتحقيق أهداف الثورة وانتظارات الشعب التنموية، وما يحمله رئيس الجمهورية الجديد من نوايا وافكار ومشاريع، إلا أن أسئلة كبرى تثور حول قدرة الرجل ومدى امتلاكه الجرأة الكافية والوسائل الضرورية لخوض مثل هذه الحرب التأسيسية التي قد لا تجد الترحيب، بل لعلها تواجه الاعتراض الشديد، من بعض القوى الفاعلة في الساحة.
ولا أشير هنا الى قوى المحافظة المنتمية في غالبيتها للمنظومة السابقة، بل قوى تنسب نفسها للمسار الثوري، لكنها لا ترى في التنمية الاولوية الاولى، بل ترى في الحفاظ على الديمقراطية اولوية الاولويات وتنظر الى كل رئيس قوي خطرا كبيرا وشرّا مستطيرا، فتشتيتها للسلطة في الدستور الحالي كان مرتكزه هذه الهواجس البنيوية لدى من عاشوا عقودا في مواجهة النظام الرئاسوي وقاسوا من ويلاته الأمرّين.. ومع ذلك تبدو لي اعادة التأسيس ضرورة ديمقراطية.
Comments