كأس العالم..مجال العولمة ” السعيدة”
هشام الحاجي
تسعى المقالات التي نسعى لنشرها على امتداد مدة فعاليات كأس العالم لكرة القدم إلى التطرق إلى الحدث من زاوية لا تلتصق بالجانب التقني لمنافسات كرة القدم و ما يرتبط بها من اختيارات تكتيكية و من نتائج تمثل أحد أهم أهداف التنافس الرياضي و لكنها لا تغطي الجوانب المعقدة و المتداخلة و المتناقضة أحيانا و التي ترتبط بكرة القدم. كرة القدم تتربع على عرش الرياضات من حيث الشعبية على المستوى العالمي.
تستحوذ على أكبر عدد من المجازين الذين يمارسونها بشكل رسمي و من حيث شغف الذين يتابعونها. تخطت كل الحدود القائمة بين الدول و الثقافات والحضارات و الفنون و اخترقت كل المجالات. يحتاج البحث عن أسباب هيمنة كرة القدم على ذائقة الإنسانية إلى بحوث ودراسات تسخر لها إمكانيات و أدوات كل العلوم الإنسانية.
و لكن ما يبدو مؤكدا أن الشغف بكرة القدم قد جعل ” المونديال ” أهم حدث تعيشه الإنسانية مرة كل أربع سنوات. حدث يغطي على أخبار الأزمات و الحروب و المخاطر بما يجعله أشبه براحة المحارب أو الفسحة التي تمنحها الإنسانية لنفسها لتنسى مشاغلها و ترجيء النظر في مشاكلها. استحضر هنا ، على سبيل الذكر لا الحصر، ما كتبه محمود درويش عن متعة مشاهدة مباريات كأس العالم ستة 1982 تحت القصف الإسرائيلي لمدينة بيروت.
لا شك أن كأس العالم لم يولد كبيرا و أن مبادرة الفرنسي جيل ريمي لإطلاق هذه التظاهرة سنوات قليلة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى قد تأثرت إلى أبعد حد بعوامل أخرى حددت منذ ذلك التاريخ تطور التظاهرة و من أهمها النقل و الإعلام و الإتصال و أيضا الإشهار و هي في نهاية الأمر دعائم المجتمع الاستهلاكي.
ليس من قبيل الصدفة أن تطور النقل الجوي و ظهور التلفزيون قد لعبا أبرز دور في تحويل المونديال إلى ظاهرة تقرب المسافات و تخترق كل البيوت. و لم يزد انتشار الفضائيات و وسائل الإتصال الحديث المونديال إلا إشعاعا و هو جعله أحد تجليات مسار العولمة و تحويل العالم إلى ” قرية كونية” و أيضا أحد أدوات العولمة خاصة و أنه لا يستند إلى أدوات عنيفة و لا يبحث عن هيمنة دائمة أو عن إستغلال شعب لشعوب أخرى.
كرة القدم تستبدل ذلك بتوفير مجال للالتقاء حول رياضة تقوم على التنافس و في مناسبة تتمحور حول الإعلاء من شأن الدولة ككيان انتماء لأن الصراع هو بين الدول. و لكن التنافس يتم في أجواء من النشوة و الإرتياح و هو شعور مضاعف لدى الذين يتاح لهم الحضور في الأماكن التي تحتضن ” المونديال ” . تحول هذا الحضور إلى حدث مهم في حد ذاته يستحضره الإنسان طيلة حياته و يتباهى به بوصفه إنجازا متميزا.
العولمة السعيدة التي توفرها كرة القدم تمثل في أحد وجوهها شكلا من أشكال ” الإنتقام الرمزي ” من الدول التي تريد أن تقود مسار العولمة سياسيا و اقتصاديا .يكفي التذكير بأن الولايات المتحدة الأمريكية و الصين و الإتحاد السوفياتي سابقا و عددا كبير ا من دول مجموعة العشرين الأكثر نموا في العالم حاليا عجزت عن الفوز بكأس العالم رغم أنها أنفقت الكثير من أجل ذلك.
من المفيد الإشارة هنا إلى أن كرة القدم ظلت عصية عن إرادة التطويع التي أرادت أن تفرضها عليها واشنطن التي انطلقت في مسعاها منذ سبعينيات القرن الماضي باشراف من ” ثعلب الديبلوماسية الأمريكية ” هنري كيسنجر الذي تحول إلى البرازيل خصيصا لإقناع الرئيس البرازيلي بدعم جهوده لاستقطاب اللاعب الاسطورة بيلي للعب لفائدة نادي كوسموس النيويوركي.
اشار هنري كيسنجر للرئيس البرازيلي أن ذلك يمثل دعما للعلاقة بين البرازيل و الولايات المتحدة و أيضا رد جميل من البرازيل لواشنطن التي تدعم نظام البرازيل. و ما دمنا نشير إلى إنتقال بيلي إلى كوسموس يتعين التذكير بأن بنود العقد ظلت مجهولة إلى أحد الآن و أشبه ما يكون بسر من أسرار الدولة في البرازيل و الولايات المتحدة الأمريكية.
و حين نقارن اليوم تراجع الإهتمام بالحرب الروسية على اوكرانيا و بمظاهر توتر أخرى يتأكد أن المونديال يوفر فسحة و هدنة للإنسانية التي ارهقتها مشاغلها حتى و ان كان لا يحل هذه المشاكل. قد يكون ما في كرة القدم من جوانب ” طبيعية” و من إعادة الإنسانية، أفرادا و جماعات، إلى جوانب من طفولتها دور في ذلك إلى جانب تحول التظاهرات الكبرى إلى أحد أدوات عولمة الثقافة .
Comments