كارنجي: هدف إسرائيل تهجير الفلسطينيين
في مقال تحليلي تحت عنوان: “هدف إسرائيل تهجير الفلسطينيين”، دعا الباحث في مركز كارنجي، و الوزير الأسبق للخارجية في المملكة الأردنية، مروان المعشر ، الى أن “المطلوب جهدٌ مستدامٌ لتعزيز التنسيق بين الدول العربية وسلطةٌ متجدّدة تعبّر بمصداقية عن الشعب الفلسطيني”، وتابع قائلا: “فوق هذا وذاك، مطلوبٌ اليوم جهدٌ عربيٌ جادٌ لدعم الصمود الفلسطيني على الأرض ماديًا وسياسيًا واقتصاديًا”.
في ما يلي نص المقال:
مروان المعشر
تقدّم مدوّنة “ديوان” الصادرة عن مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط وبرنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي تحليلات معمّقة حول منطقة الشرق الأوسط، تسندها إلى تجارب كوكبةٍ من خبراء كارنيغي في بيروت وواشنطن. وسوف تنقل المدوّنة أيضاً ردود فعل الخبراء تجاه الأخبار العاجلة والأحداث الآنيّة، وتشكّل منبراً لبثّ مقابلات تُجرى مع شخصيّات عامّة وسياسية، كما ستسمح بمواكبة الأبحاث الصادرة عن كارنيغي.
نقطة الانطلاق التي يؤسّس عليها هذا التحليل هي، القناعة اليوم بأن التهجير الإسرائيلي للفلسطينيين بات هدفًا إسرائيليًا استراتيجيًا واضحًا، ينتظر أو يوفّر فرصًا سانحة لتنفيذ هذا التهجير. ليس هذا خطابًا انفعاليًا أو عاطفيًا، بل يستند إلى حقيقيتَين راسختَين؛ أولهما، أن إسرائيل لا تسعى إلى قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، بل تعمل بوضوح على ابتلاع هذه الأرض وضمّها وقد صرحت بذلك مرارًا، ومن دون مواربة. أما الحقيقة الثانية فهي أن إسرائيل، ومنذ سنوات، باتت تواجه أغلبية فلسطينية داخل الأراضي التي تسيطر عليها، وتخضعها لنظام فصل عنصري، لا يمكن أن يستمر. وعليه، تجد نفسها أمام خيارٍ واحد من منظورها: قتل أو تهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، والاستيلاء على الأرض دون سكان، وضمان ألا تقوم أغلبية فلسطينية على هذه الأرض.
وإن كان هذا التحليل منطقيًا، فإنّه يتيح فهمًا أعمق للأقوال والأفعال الإسرائيلية، ويُبرز في الوقت ذاته الحاجة إلى مراجعة جذرية للمقاربة العربية الرسمية تجاه إسرائيل. فهذه المقاربة ما زالت، إلى حدٍّ بعيد، تقوم على افتراضٍ متفائلٍ بأن إسرائيل قد تنسحب يومًا من الأراضي المحتلة، وتقبل بقيام دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلة على الأرض الفلسطينية. لكنّ المعطيات والوقائع تشير بوضوح إلى عكس ذلك، الأمر الذي يفرض إعادة تقييم شاملة للسياسات العربية، استنادًا إلى إدراك أن إسرائيل لا تتحرك ضمن منطق “التسوية”، بل ضمن مشروع إحلالي توسّعي.
ومن هذا المنظور، يمكن قراءة تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش الأخيرة، باعتبارها انعكاسًا صريحًا لهذا النهج، التي قال فيها، إن إسرائيل بصدد ضمّ 82 في المئة من الضفة الغربية، أي المنطقتَين “ب” و”ج” في اتفاقية أوسلو، التي تستثني فقط المنطقة “أ” التي تشكّل 18 في المئة من الضفة الغربية، والتي تحتوي على المدن الفلسطينية الرئيسة فيها.
و الترجمة الدقيقة لهذه التصريحات هي، أن إسرائيل تريد ابتلاع الأرض دون السكان، حتى تتخلّص من كابوس وجود أغلبية فلسطينية، من دون أن تقول صراحةً ماذا تنوي عمله بهؤلاء السكان. فإذا أضفنا لذلك ما تقوم به إسرائيل في غزة من إبادة جماعية للبشر والحجر، يصبح من السهل إدراك الهدف الإسرائيلي الاستراتيجي. وإن كانت الظروف في الضفة الغربية غير مهيّأة بعد كما في غزة، فهذا لا يعني انتفاء الهدف الاستراتيجي الإسرائيلي، جلّ ما يعنيه أن إسرائيل ستواصل خلق الظروف المناسبة، تارةً عن طريق استخدام اعتداءات المستوطنين، وتارةً أخرى عن طريق ضمّ مناطق كبيرة من الضفة، لتحقيق هدفها على مراحل.
من هنا، يمكن أيضًا فهم ما صرّح به رئيس الوزراء الإسرائيلي مؤخرًا، حين أعلن إيمانه بما يُسمّى “حلم إسرائيل الكبرى”، التي تشمل أجزاء من ست دول عربية يعيش فوقها ما يزيد عن مئة مليون عربي. والسؤال هنا: هل ينبغي التعامل مع هذه التصريحات باعتبارها مجرّد هذيان سياسي، وانفعال خطابي يهدف إلى إرضاء شركائه المتطرّفين في الحكم؟ أم ندرك أنّها تعكس رؤيةً استراتيجيةً لدولةٍ لا تؤمن بالسلام أصلًا، وتتصرّف انطلاقًا من قناعةٍ بأن قوّتها العسكرية تتيح لها خرق أيّ قانونٍ دولي تراه عائقًا أمام مشروعها، من دون أن تتعرّض لمحاسبةٍ أو مساءلةٍ حقيقية؟ وها هي إسرائيل اليوم تواصل خرقها للسيادة السورية واللبنانية بلا رادع، في تأكيدٍ إضافي على نهجٍ يقوم على القوّة والتوسّع، لا على الشرعية الدولية، أو متطلبات الاستقرار الإقليمي.
لقد آن الأوان لمقاربةٍ عربيةٍ أكثر شمولًا في التعامل مع إسرائيل، فالجهود التي يبذلها الملك عبد الله الثاني بن الحسين، والرئيس عبد الفتاح السيسي، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وغيرهم من القادة العرب، تمثّل خطواتٍ دبلوماسية وإنسانية محمودة في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية، وهي جهود لا يُستهان بأهميّتها. لكنّ متطلبات المرحلة تقتضي البناء على هذه الجهود وتوسيع دائرتها من خلال خطوات إضافية، تُترجم الموقف العربي، إلى استراتيجيةٍ متكاملةٍ قادرة على حماية الحقوق الفلسطينية ومواجهة المشروع الإسرائيلي بأدوات ردع فاعلة على المستويات السياسية والقانونية والدبلوماسية.
أولًا، يجب أخذ تصريحات نتنياهو وسموتريتش على محمل الجدّ، بما يؤدي إلى رفع دعوى في محكمة العدل الدولية ضدّ الحكومة الإسرائيلية، التي خرقت بهذه التصريحات المعاهدة الأردنية الإسرائيلية، وميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي الذي لا يُجيز احتلال أراضي الغير بالقوة. إن دعوى كهذه من شأنها استصدار رأي ملزمٍ من المحكمة، باعتبارها ترفع من دولة ضدّ دولة، خلافًا للرأي الاستشاري الذي صدر من المحكمة في العام 2004 بشأن جدار الفصل الإسرائيلي كونها رفعت من عضو مراقب في الأمم المتحدة هو فلسطين، وليس من دولةٍ كاملة العضوية كالأردن. وفي حين أن ذلك قد لا يلزم إسرائيل أيضًا، فإنه يعطي إشارةً واضحةً على أن الأردن وغيره من الدول العربية لا تقبل أن تمرّ هذه التصريحات من دون مساءلة.
ثانيًا، يجب تفعيل كل الجهود الدبلوماسية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي، لاستصدار قرارات إدانةٍ ضدّ التصريحات والأفعال الإسرائيلية بما لا يدع مجالًا للشك، أن هذه التصريحات تخرق بشكل فاضح القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة.
ثالثًا، حان الوقت لإيلاء الجبهة الداخلية ما تحتاجه من تحصين. إن الخطوة التي خطاها الأردن في مجال إعادة خدمة العلم ضروريةٌ ومحمودة، نأمل أن تتبعها خطوات أخرى للانفتاح على الداخل. آمل أيضًا أن يواجه النظام السوري الجديد إسرائيل عن طريق تحصين جبهته الداخلية، وإدماج جديّ لكلّ مكوّنات الشعب السوري في الحكم، بما يقطع الطريق على محاولات إسرائيل اختراق بعض هذه المكوّنات، خاصةً المكوّن الدرزي.
ثمّة جهدٌ آخر محمود تقوده المملكة العربية السعودية وفرنسا، يهدف هذا الشهر إلى اعتراف عددٍ من الدول، خاصةً الغربية منها، بدولة فلسطين. يجب عدم التقليل من هذا الجهد، وفي الوقت نفسه، لا يجوز الاكتفاء به، حتى لا ينتهي مصيره إلى أن يصبح الاعتراف رمزيًا خاليًا من المضمون. ويتطلّب ذلك جهدًا دبلوماسيًا مكثّفًا لحمل الدول التي تعترف بفلسطين، على أن تحذو حذو الدول التي فرضت عقوبات على روسيا في الأسبوع الأول لدخولها الأراضي الأوكرانية. من هذه الإجراءات على سبيل المثال فرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، وحظر تصدير الأسلحة إليها، وحظر استيراد البضائع المنتجة في المستوطنات، والطلب من هذه الدول تسهيل مهمة أخذ المسؤولين الإسرائيليين للمحكمة الجنائية الدولية.
نواجه وضعًا قاتمًا، لكن لا يجوز أن نحوّله إلى مدعاةٍ للاستسلام. المطلوب جهدٌ عربيٌ مستدام لمزيد من التنسيق بين دول عربية فاعلة اليوم مثل، الأردن ومصر والسعودية وقطر والإمارات وغيرها. مطلوبٌ اليوم سلطةٌ فلسطينيةٌ متجدّدة تعبّر بمصداقية عن الشعب الفلسطيني، وتستطيع المساهمة في تقديم حلول بديلة للوضع القائم.
فوق هذا وذاك، مطلوبٌ اليوم جهدٌ عربيٌ جادٌ لدعم الصمود الفلسطيني على الأرض ماديًا وسياسيًا واقتصاديًا. فما لم تحقّقه القوّة العسكرية أو الجهود الدبلوماسية لإنهاء الاحتلال، قد تحققه القوة الديموغرافية الفلسطينية الناشئة، إن وجدت داعمة عربية حقيقية لضمان بقائها على الأرض الفلسطينية، خاصةً أن الفلسطينيين يثبتون كلّ يوم صمودهم على أرضهم، بالرغم من كل ما تحاوله إسرائيل من قتلٍ أو تهجير.
الرابط الأاصلي للمقال:
Comments