كتب خالد شوكات: “الشعب يريد” وترجمته القيسيّة “أنا أريد”
خالد شوكات
أراد شاعرنا الخالد أبو القاسم الشابي أن يشدَّ من عضد التونسيين في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما كان اليأس قد دبّ في النفوس وبدا الامل في تحقيق استقلال البلاد بعيد المنال، فجاءت قصيدته العظيمة “إرادة الحياة” رسالة عكس التيار، تبرز قاعدة ان إرادة الشعوب لا تقهر ولو طال زمان الاستعمار، وانه لا بد لليل ان ينجلي ولا بد للقيد ان ينكسر، وقد كانت قناعة الشابي هذه مشدودة بالأساس لقضية التحرر من براثن المستعمر بالدرجة الاولى، ولم تكن تنظيرا لأي نوع من أنظمة الحكم.
وما اذكره ونحن تلاميذ في ثانوية المكناسي في بداية ثمانينيات القرن الماضي، اننا كنا نردد شعار “الشعب يريد” المشتق من قصيدة الشابي إرادة الحياة، وكثير من العرب لا يعرفون أصل هذا الشعار الذي اشتهر كثيراً وتردد على ألسنة ثوّار الربيع العربي، وغيرهم من الثوّار في مختلف أنحاء العالم، بل لعلَّ كثيرا من التونسيين أنفسهم (نسبة الى مهد الثورة سيدي بوزيد) لا يعرفون ذلك ايضا، وانا أزعم انه “ابتكار بوزيدي” بامتياز، قبل ان يصبح منتجاً وطنيا بفضل ثورة الحرية والكرامة.
وما أحببت قوله أن أي تأويل معزول عن سياق الشعار وبيئته، سيكون حتما شبيها بالتأويلات ذائعة الصيت لتجارب سياسية غاية في السوء والسوداوية، سامت الناس في الشرق وفي الغرب سوء العذاب، فلو اقتصرنا على التاريخ الحديث والمعاصر سنجد ان أكبر الجرائم ضد الانسانية وأكثر الأنظمة ديكتاتورية ودموية هي تلك التي رفعت شعارات “الشعب” و”الشعبية”، وباسم تنفيذ هذه الشعارات سحقت شعوب باكملها ومرّغت كرامتها في الوحل وسحبت منها جميع اشكال الحرية.
فلنتذكر معاً أنظمة “الديمقراطية الشعبية” التي اقامتها الاحزاب الشيوعية في روسيا واوربا الشرقية وألبانيا والصين وغيرها.. لنستحضر ارواح ملايين الكمبودج الذين سحقتهم آلة الخمير الحمر الدموية، ولنستحضر ارواح خمسين مليون الذين قتلهم الرفيق ماو في سبيله لتأسيس الصين الشعبية، ولنستحضر كذلك الجرائم الستالينية، وجرائم انور خوجا، وجرائم غالبية الطغاة والمستبدين، لقد كان جلهم يقترف جرائمه باسم هذا الشعب المسكين.
كان الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي رحمه الله يحكم لعقود ليبيا حكما فرديا مطلقا باسم الجماهيرية الشعبية واللجان الشعبية والمؤتمرات الشعبية.. وكان كل شيء في ليبيا يسند الى الشعب، فيما كان الجميع على يقين من أن الحكم كله بيد فرد واحد يحاكي الاله في جبروته وسلطانه..
الزعيم جمال عبد الناصر ايضا كان يردد “الشعب عايز كده”، وصدام حسين كان بدوره يرى نفسه هو والشعب كيان واحد لا كيانين، وعمليا أينما نجد كلمة شعب وشعبية ومشتقاتهما سنجد ان الامر يتعلق بفرد واحد يتمثل الجميع في ذاته ولم يجد سبيلا لفرض ارادته بالغاء التنوع والتعددية والتفرد بالرأي والسلطة وتجاوز الاحزاب والتنظيمات والغاء الحقوق والحريات سوى اعلان هذا التماهي بين ذاته الفردية وذات الشعب، وهكذا فان افضل وسيلة وجدها لالغاء الشعب ان يصدر القرار باسم الشعب.
الشعب كلمة هلامية في واقع الامر، وعندما يتعلق الامر بالموقف والرأي، سيبدو إجماعه على امر ما شبه مستحيل، ولهذا فان مقدسات الشعوب الثابتة الجامعة غالباً ما تكون محدودة جدا، وعادة ما يجري في الأنظمة الديمقراطية دسترتها على نحو تخرج معه من فضاء النقاش العام تاركة المجال امام التعدد والتنوع والانقسام، ولهذا يظهر زعم النطق باسم الشعب، هكذا في المطلق، ممارسة غير مقبولة في الديمقراطيات المستقرة، في مقابل شيوع الفكر النقدي والنسبي المؤمن باننا خلقنا مختلفين متنوعين وسنظل، وان المطلوب هو ان نحسن ادارة التنوع والاختلاف، لا ان نسعى الى إلغائه تحت اي ذريعة.
أخضع علم النفس الاجتماعي للدراسة والتحليل هذه الشخصيات التي تظهر بين الفينة والأخرى، في هذه البلاد او تلك، زاعمة اختزال الذات الشعبية في ذاتها الفردية، وقد اقرت جل هذه الدراسات في هذا السياق تحديدا، بان الامر يتعلق بظاهرة مرضيّة، فالأشخاص الذين يردهم هذا الخاطر ويتلبسهم هذا الاعتقاد بأنهم مرادف للشعب والشعب مرادف لهم، غالبا ما يقدمون على سلك مسالك خطيرة ذات اثار وتجليات وخيمة، تكون الشعوب ضحيتها الاولى والاخيرة. نحن اذاً ازاء حالة “نفسية اجتماعية” اكثر مما هي حالة سياسية أو فكرية ايديولوجية، ولا اعلم ان كنا نتوفر في هذه الديمقراطية الناشئة المبتلاة على ما يكفي من الاليات القانونية والدستورية للتعامل معها وتطويق أضرارها..لكن أضرارها ثابتة الحدوث لا محالة.
Comments