الجديد

كتب منذر بالضيافي: نحو عالم جديد.. العالم الذي نعرفه انتهى !

منذر بالضيافي

مع تسارع نسق التحولات العالمية، وفي مناخ تسوده حالة من اللايقين والارتباك، بات من الواضح أننا نعيش لحظة تاريخية فارقة، ومنعطفاً حضارياً غير مسبوق. العالم الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، بكل ما حمله من استقرار نسبي، وقواعد حاكمة، ونظام دولي واضح المعالم، بدأ يتفكك أمام أعيننا. نحن نشهد نهاية مرحلة، وبداية طور جديد من التاريخ.

تسارع التحول: حين يتحرك التاريخ بسرعة

يبدو أن الإنسانية دخلت مرحلة ما يمكن تسميته بـ”تسارع التاريخ” (l’accélération de l’histoire)، حيث لم تعد التغيرات تتم عبر الأجيال، بل خلال سنوات قليلة وربما شهور. فمن جائحة كوفيد-19 التي هزت أسس المنظومة الصحية والاقتصادية العالمية، إلى الحروب الدامية في أوكرانيا وغزة، وصولاً إلى صدام إقليمي غير مسبوق بين إيران وإسرائيل بمشاركة مباشرة من الولايات المتحدة… كل هذه الأحداث ليست عابرة، بل مؤشرات على إعادة رسم الخرائط، وتقويض المنظومات، وتحول عميق في موازين القوى.

ولعل الأهم من كل ذلك، هو أن هذه الأحداث تُظهر هشاشة العالم الذي اعتدنا عليه، وتجعلنا نعيد النظر في مفاهيم كنا نظنها راسخة: السيادة، الأمن، التنمية، العدالة، وحتى معنى التقدم.

عالم طبقي جديد.. يتشكل أمامنا

نحن أمام ولادة عالم “طبقي” بامتياز، لا بالمعنى الاقتصادي التقليدي فقط، بل من حيث التفاوت في امتلاك أدوات المستقبل. هناك دول تتجه نحو الريادة في الذكاء الاصطناعي، وتخطط لرفع معدلات الحياة إلى 150 سنة، وتبني “دول الابتكار”، بينما أخرى تتقهقر إلى ما يشبه عصر ما قبل الحداثة: أمراض الفقر، تراجع العمر المتوقع، انعدام التنمية، وانهيار الحكم الرشيد.

العالم الجديد سيُدار عبر الشركات العملاقة والتكنولوجيا العابرة للحدود، أكثر من إدارات الدول الوطنية. وهذا يفرض تحولات جذرية في مفهوم الدولة والسيادة، ويؤسس لما يمكن أن نسميه بـ”القطيعة الإبستيمولوجية” مع عالم الأمس.

العرب.. في موقع المتفرج

هنا يطرح السؤال الجوهري نفسه: أين نحن كعرب من كل هذا؟

للأسف، الغالب على المشهد العربي هو العجز لا الفعل، والانفعال لا المبادرة. وبينما تتغير قواعد اللعبة الدولية، ما تزال منطقتنا رهينة نزاعات قديمة، وصراعات داخلية، وتشتت في الرؤية والمصالح. رغم وجود عوامل موضوعية قادرة على الدفع نحو التكتل (اللغة، الجغرافيا، التاريخ، المصالح المشتركة)، فإننا نُصرّ على البقاء أسرى الجمود.

إن اللحظة التي نعيشها لا تحتمل الارتباك. فإما أن ننخرط في بناء موقع لنا داخل النظام الجديد، أو نظل في هامشه، وربما خارجه تماماً.

دعوة لإعادة التفكير في المشروع العربي

الحاجة اليوم ماسة إلى رؤية استراتيجية عربية جديدة، تتجاوز الانقسامات السياسية والإيديولوجية، وتُعيد بناء الفضاء العربي على أساس المصلحة والتكامل، لا الأوهام والشعارات. من هنا، يمكن التفكير في:

***  إعادة صياغة دور جامعة الدول العربية لتكون فاعلة بحق، أو حتى خلق هيئات موازية فعالة

***  تفعيل التجمعات الإقليمية مثل اتحاد المغرب العربي ومجلس التعاون الخليجي بمقاربات أكثر مرونة.

***  إطلاق مشاريع سيادية في الذكاء الاصطناعي، الطاقة، الغذاء، الأمن، والصحة، بالشراكة مع دول نامية أو صاعدة.

الخلاصة

 التحولات الجارية ليست نهاية العالم، لكنها بالتأكيد نهاية العالم الذي نعرفه. والمستقبل لن يُمنَح لأحد، بل يُنتزع بالفعل والقرار والجرأة. التحديات القادمة هائلة، لكنها – في جوهرها – فرص جديدة لمن يملك الشجاعة والعقل الاستراتيجي. أما الاكتفاء بالمشاهدة والانتظار، فهو انتحار جماعي مؤجل.

* كاتب المقال: منذر بالضيافي، محلل سياسي وباحث في قضايا التحول الحضاري

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [ View all posts ]

Comments

Be the first to comment on this article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Go to TOP