كتلة برلمانية في الأفق .. نحو “انقلاب” برلماني وسياسي
المهدي عبد الجواد
أثار بيان حركة النهضة، الذي أمضاه رئيسها راشد الغنوشي، حول “احاديث تدور في اروقة مجلس نواب الشعب عن تحركات بغاية تشكيل كتلة نيابية جديدة ، وتغذية الانشقاقات في بعض الكتل النيابية”، حالة من الاستغراب، وجعل المتابعين للحياة السياسية و الحزبية و البرلمانية يتساءلون على أسباب ودوافع “مضمونه” قبل التساؤل على شكله والصيغة “المستجدة” التي ورد عليها.
فقد أكد البيان رفضه تكوين “كتلة برلمانية” جديدة “من شأنها تغذية الاحتقان و تشجيع الانشقاقات داخل الكُتل”، و دعا السيد رئيس الحكومة الى ان يتصدى لمثل هذا التمشي. و يبدو ان الدعوة الموجهة للسيد الفخفاخ هي “تحذير مبطّن” يستبق تكوين هذه الكتلة، و ما يروج من كونها ستكون سندا برلمانيا للسيد رئيس الحكومة.
في كل الحالات فأن بيان حركة النهضة و التحركات و اللقاءات و الاجتماعات المُعلن منها و الخفيّ تؤكّد أن المشهد البرلماني والسياسي سيُحافظ على طابعه المُتغيّر. إذ أن أزمة الكورونا بقدر ما وفّرت “هُدنة” ضرورية، قلّصت من مظاهر الصراع والاحتقان الذي وسم المشهد البرلماني.
و بقدر ما دفعت الجميع إلى “التآزر” لتجاوز المحنة، فإنها كانت مناسبة ليُراجع الجميع حساباتهم و تموقعاتهم، و يبدو أن هذه الكتلة الجديدة، و رغم أننا لا نعرف شيئا عنها و لا يُمكننا بذلك الحُكم لها او عليها، فإنها تجد مسوغات تكوينها في الوضع البرلماني غير المتوازن و في افتقاد الحكومة لإسناد برلماني واضح في ظل الصراعات العلنية بين مكوناتها و في حالة الاستقطاب غير المُثمر الذي تعرفه الساحة البرلمانية و السياسية و التي تزيد في تعميق الخلافات بشكل قد يقود إلى وضعية أكثر هشاشة، تؤثر في المجهودات الحكومية لتجاوز مضاعفات الكورونا.
في اختلال التوازن البرلماني
أفرزت الانتخابات التشريعية الفارطة وضعا برلمانيا ميزته التّشتّتْ، و ضعف الكتل البرلمانية. فباستثناء حركة النهضة التي تمتلك كتلة برلمانية محترمة ووازنة، فان كل الكتل الاخرى ضعيفة العدد و التمثيلية و القوة. و قد نجحت حركتا الشعب و التيار الديمقراطي عبر الاندماج في الكتلة الديمقراطية من افتكاك موقع مهم، كان مُحدّدا في مفاوضات تشكيل حكومتي الجملي و الفخفاخ و في توزيع المناصب الوزارية، إذ حصلت على خمس وزراء و سيكون لها وزيران مستشاران في القصبة.
تمكن حسونة الناصفي من تجميع شتات أحزاب مختلفة ليُكون كتلة الاصلاح بحوالي اثني عشر نائبا و تمكن نواب مستقلون من تكوين كتلة رابعة بها تسع نواب و هي كتلة المستقبل. و رغم كل محاولات التجميع الايجابية هذه، فان الوضع البرلماني يتميز بهيمنة حركة النهضة على أشغال المجلس مدعومة بحليفيها ائتلاف الكرامة و قلب تونس. في هذا الوضع المختلّ يُصبحُ التفكير في تكتّل برلماني يوحّد جهود كُتل متشابهة أمرا مهما. و من ثمة يُصبح بعث كتلة تصم نوابا من مختلف هذه الكتل التي ذكرت، يُمكن ان يصل عددها الى اربعين نائبا، حدثا مفصليا في توزيع خارطة القوة داخل مجلس نواب الشعب.
إذ ان تنسيقا محتملا مع الكتلة الديمقراطية سيجعل المجلس “منقسما بالعدل” مع حركة النهضة، و يفتكّ منها سبق المبادرة و يكسر هيمنتها عليه، و هو ما يُفسّر البيان الذي أصدرته و ما فيه من تحذير من “مغبة المغامرة” لبعث كتلة ترى فيها “خطرا” عليها و على حلفائها. والأخطر من ذلك توجّس النهضة من التحاق بعض نواب قلب تونس بهذه الكتلة و هو ما سيخلق انقلابا حقيقيا في موازين القوى داخل المجلس.
كما ان هذه الكُتلة ستقوم بترشيد السلوك السياسي و الخطاب البرلماني، فمكوناتها تنتمي نظريا الى “الفضاء الإصلاحي الوطني” و ستدفع نحو فرز حقيقي، بعيدا على الصراعات الشعبوية و الخطابات الفلكلورية التي تطبع كثيرا من جلسات المجلس.
في الاستقرار الحكومي
تُشارك نظريا في حكومة الفخفاخ أحزاب كثيرة، النداء و البديل و تحيا تونس، لكن حضورها فيها من جنس حضورها في البرلمان. حضور ضعيف. و تُهيمن على الحكومة حركة النهضة من جهة و ممثلي “الكتلة الديمقراطية” من جهة ثانية، و لا يفوتُ المتابعين للشأن الحكومي الصراع العلني بين هذه المكونات بشكل يُوتّر الأجواء العامة، و يُعطّل عمل الحكومة. ناهيك من ارتفاع أصوات علنية تدعو إلى “حكومة وحدة وطنية” أو”توسيع الائتلاف” الأمر الذي جعل التيار يتحدث على “نية النهضة تغيير تحالفاتها” وجعل حركة الشعب تقول انها “حزب الرئيس”.
هذا الاختلال في الحزام الساند لرئيس الحكومة، يجعله في موقف صعب، قد تُسهم هذه الكُتلة في مساعدته على تجاوزه، و على التحرّر من ضغط بقية المكونات، إذ سيكون الحزام الداعم للفخفاخ وحكومته منقسما على ثلاث كُتل متوازنة. وعلاوة على ضمانها دعما للحكومة ولاستقرار عملها، فان هذه الكُتلة سيكون صوتُها مسموعا في كل عملية سياسية مستقبلية تمس الحكومة بالتغيير الكلي اوالجزئي، وتكسرُ هيمنة النهضة و الكتلة الديمقراطية عليها، و تقوم بدور” عازل الصدمات” Parachoc، بين مكونات الائتلاف بما ستوفره من خطاب عقلاني ووطني متشبّع بقيم الدولة الوطنية و تكون أيضا ضمانة للحفاظ على المكتسبات و حماية من كل إمكانيات الانحراف بالحكم، نحو صراعات حزبية غير محمودة العواقب.
في الأفق السياسي .. توقعات وانتضارات
إضافة الى مخاوف النهضة المفهومة من بعث هذه الكُتلة، ثمة مخاوف عند أطراف أخرى تخشى أنها ستكون نواة مشروع سياسي جديد للسيد رئيس الحكومة الياس الفخفاخ. و رغم أن لا شيء يمنع ذلك، فإن ذلك يدخل في باب الرجم بالغيب، و نحسبُ أن مكونات هذه الكُتلة غير متفقين على ذلك، بل يبدو لنا أمرا مستبعدا لأسباب مختلفة، ليس أقلها ما واجهه السيد يوسف الشاهد عند تكوين مشروعه السياسي من صدّ، و انتقاد كانت سببا في فشله الانتخابي.
على ان تكوين هذه الكتلة قد يخلق فضاء مناسبا “للتعارف السياسي” و للنقاش العميق بين مكوناتها لإنضاج تجربة العمل المشترك، حول مشاريع قوانين او مبادرات تشريعية، او تحديد موقف مشترك من قضايا وطنية مستجدة اجتماعية و سياسية و اقتصادية. ومن شأن ذلك ان يوفر مناخا من الثقة يكسر التوجس والشكوك بين مكوناتها، ويقضي خاصة على “أمراض الزعامة” التي تفتك بالمعسكر “الإصلاحي الوطني”. و يمكن للمكونات السياسية و الحزبية خارج البرلمان الاستفادة من هذه الكتلة التي قد تتحول الى قاطرة الفعل السياسي المستقبلي.
و يُمكن لهذه الكتلة ايضا ان تكسر الاستقطابات المغشوشة التي تُهيمن على المشهد السياسي، بين التيارات المتطرفة و التيارات الشعبوية. و تتحول الاهتمام نحو قضايا سياسية حقيقية تُعيد للفعل السياسي معانيه و قيمه التي ضاعت في “الصراعات” و دعوات الإقصاء و التكفير. و من شأن ذلك تخفيف الاحتقان السياسي العام، و إعادة بناء الثقة مع المواطنين الذين ينظرون بكل سلبية الى البرلمان، بل و يتداعى منهم الكثيرون بالدعوة لحله.
في المحصّلة تبدو لنا فكرة تكوين هذه الكُتلة مفيدة لا كثر من طرف على أكثر من صعيد، و مُربكة لأكثر من طرف آخر. وبين التحمّس لها ورفضها والتحذير منها و حتى الخوف من تطورها و نتائجها البعيدة، ستُشكّل هذه الكُتلة في حال تكوينها انقلابا حقيقيا في موازين القوى داخل المجلس وحول الحكومة وربما في الحياة السياسية عامة.
Comments