كورونا بين “تطبيب السياسة” و “تسييس الطب”
شعبان العبيدي
أثار فيروس كوفيد 2 جدلا كبيرا بعد انتشاره في أوروبا وبقية بلدان العالم، وعبوره حدوده الأولى الّتي نشأ فيها، بين الأطباء وعلماء الأوبئة من جهة، وبين ساسة العالم والأطباء من جهة ثانية.
ولعلّ المتابع لمختلف مشاهد حضور رؤساء الحكومات ووزرائها سواء خلال النّدوات الصحافية أو الحوارات ما غلب عليها من تسرّع في تناول قضية الوباء وأحكام ومواقف اعتباطية تتردّد بين نشر ثقافة الذّعر وبين الاستهانة به حين حاول هؤلاء أن يحلّوا محلّ خبراء الصحّة.
هذا ما أصبح يكلق علي تلوثا سياسيا بيولوجيا يحيل عليه مصطلح الفيروسية، وأكثر هذه المواقف إثارة ما جاء على لسان كل من الرئيس الأمريكي ورئيس الحكومة البريطانية من تسرّع في التهوين من أثر الفيروس التاجي وضرورة المحافظة على السير الطبيعي للحياة، حتّى استفاق كلّ منهما أمام تحذيرات الأطباء وتفاقم ضحايا الوباء، وبعد أن كان الثاني ضحية من ضحاياه على حقيقة الاستعانة بالجهاز العلمي لعلماء الأوبئة والأطباء.
وهو ما جاء أيضا في حديث رئيس الحكومة الياس الفخفاخ ليلة أمس في حواره الصحفي على القناة الوطنية في تحديده للشرائح الّتي يصبها الفيروس وتتعافى بشكل عادي وبين نسبة قليلة من المتقدّمين في السنّ وممن يعانون من أمراض مزمنة وهم برايه معرّضون للخطر.
في المقابل في الجهة الأخرى من أوروبا أظهرت مواقف إنسانية لرؤساء الحكومات حيرة وألما. لينقلب المشهد مع اشتداد ضربات الوباء ويصبح الفريق الطبيّ أو اللّجنان الطبيّة في مقدّمة الخطاب السياسي ومرجعا له حتّى لا ينزلق الساسة إلى الإفتاء فيما ليس من اختصاصهم.
مع هذه الاستعانة بخبراء الأوبئة والمختصّين وتصدّرهم مشاهد المعركة ضدّ الوباء، ومشاهد الندوات السياسية، أصبح من اللاّفت أنّ لكورونا فضائل يقدّمها لرجال السياسة، ودروسا وعبرا يستخلصونها منها تحييزهم في مجالهم وأخذهم بتوصيات الأطباء في تحديد سياستهم القائمة على إعلان حالة الطوارئ وسياسة الحجر الصحيّ العام أو النسبيّ وفرض التباعد الاجتماعي.
هي دروس لتطبيب السياسة و ضرورة الأخذ بقيم فاعلة مثل النّجاعة و الجديّة والمثابرة والصدق والتنسيب و الابتعاد عن الشعبويّة والعناد ، وحسن اختيار المستشارين الذين يكونون من أهل الاختصاص والمعرفة والإضافة بدلا من أن يكون اختيارهم قائما على الولاءات و المحسوبية والانتهازية .
مثلما قدّم لهم الفيروس دروسا في تحمل المسؤولية عبر تطبيق الإجراءات الاستثنائية والحذر من الأخطاء القاتلة كالتي وقعت في الصين، أو مظاهر الجشع في تحويل الكارثة الوبائية إلى مدخل لخدمة الموالين الحزبيين من رجال المال والمضاربين والمحتكرين مثلما يحمل لهم هذا الوباء دروسا في الابتعاد عن الأكاذيب ومحاولة تزييف الحقائق وهو الدّرس الذي أعطاه الطبيب الصيني لرجال دولته وذهب ضحيته.
هكذا يساهم الفيروس في تطهير السياسة وتطهير ساستنا ويقدم لهم درسا في ثقل مسؤولية إدارة الدولة، والتزام مسار قيميّ جديد.
مثلما ساهم الفيروس التّاجي في جانب آخر في الكشف عن حقيقة الدّولة الحديثة الفاقدة لمقوّمات الرعايّة الصحيّة والاجتماعية والعلميّة، بعد أن أصبحت دولة جباية ورقابة خادمة للوبي المالي والاقتصاديّ، أو دولة فاشلة الّتي انكشف زيف خطابها الحمائي لحقوق الإنسان والأفراد في العيش الكريم والرعايّة والعدل والحياة.
وبهذا يعيد هذا الوباء من جديد سؤال الدّولة الاجتماعية أو دولة الرعايّة إلى سطح الجدل والمطالب. وهذا مفاد قول “فوكو” من أنّ للوباء حكما سياسيا. ومفاده أن تقوم الدّولة بوظيفتها الحمائية والوقائية والاجتماعية وأن تأخذ التّدابير الاستثنائية ومراسيمها على حسن استقراء الأرقام والوضع دون أن تسقط كليّا في ترويج الذعر والتردّد مثلما هو الحال في تصوّر حكومتنا لمسألة تمديد الحجر الصحيّ التّام بناء على الاتّباع لإجراءات دول أخرى قد تكون أوضاعنا مختلفة عنها كمّا وكيفيا.
ومن فضائل كورونا بالإضافة إلى بيانها لقيمة السياسة الحيوية باعتبارها فعلا تصبح بفضله شروط الحياة الإنسانية صريحة من صحّة وتغذيّة وتعليم ومواجهة المخاطر وتوظيف التقنية في صالح الجماعة، فإنّها تحذّر المجتمعات المدنيّة والسّاسة ورجال الدّولة من تحويل هذه الإجراءات الاستثنائية إلى مداخل للاستبداد والفساد والتسلّط، وظلم اجتماعي واقتصادي للفئات الفقيرة وأصحاب المهن غير القارّة، هذه التخوفات بدأت ترمي بظلالها وتشغل المفكرين و الفلاسفة.
وبالمناسبة لابد أن تعي حكومتنا العتيدة أن المراسيم يجب ان تكون متعلقة بالنّظام والسلامة العامة لا بالاستغلال والتوظيف السياسي للوباء واتخاذه ذريعة مثالية لتوسيع نطاق السلطة وتوظيف حالة الذّعر الجماعية لتغوّل الدّولة وعودة النّزعات التسلطيّة.
في جانب آخر نشهد تسييسا للطب سواء عبر وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي وذلك في محاولات سياسية وحسابات للخروج بهذه المحاورات من مجالها الطبيّ والعلميّ إلى مجال تصفية الحسابات السياسيّة.
منها مشاهد برع إعلامنا في توضيبها بالشكل الذي يريده منها. وأحيانا تحوّلت التقييمات الطبيّة غير المتجانسة مع حقائق الفيروس وتنوّع طرق إصابته للإنسان بما يكتشفه المباشرون والخبراء في مجال الطبّ من مظاهر جديدة له لم يقع الإعلان عليها في منشأه الأصليّ، وهو ما يزعزع الثقة في الطبّ ويحمل ملاحظاته التقريبية على أنّها ضرب من المؤامرة السياسية أو دخول العلم في خدمة السلطة الحاكمة.
مثلما أنّ الاستراتيجية المتبعة في مقاومة الوباء والمعروفة تاريخيا من حجر صحيّ شامل وفرض للتباعد والعزلة الفرديّة والأسرية ليست هي الإمكانية الوحيدة، قد تجعل الأطباء حين يبعثون برسائل كارثية مجانبة للصواب معرّضين لتهمة التّزييف السياسيّ والتلاعب بالحقائق، وإن كان ذلك من باب الحرص على الوقاية.
فهل هذا داخل في باب أخطاء الخبراء أم هو خادم لمزيد استمتاع الدّولة بنشر الرّعب. مثلما أبرز الأطباء وعلماء الفيروسات في تدخلاتهم غياب النّجاعة والآنية والاستعداد المسبّق للفيروس، لذلك تتغيّر التوصيات والعلامات كلّ مرّة مما يفقدهم المصداقية ويجعلهم في مظهر لا يختلف عن عموم مثقفينا أنهم يقتاتون على ما ينتجه الآخر، وهو ما فتح الباب لتنشط خطابات هوامش طبية وعلماء ينتسبون إلى مجال علم الأوبئة ورؤساء مخابر يحاولون تحويل وجهة الحرب.
ولا غرو أنّ ازدياد حجم الفيروسات القاتلة خلال العقدين الأخيرين مثل أنفلونزا الطيور الأسيوي وأنفلونزا الخنازير المكسيكي وفيروس إيبولا و فيروس سارس ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسيّة وحمّى النّيل مازالت كلها ناشطة كالبراكين دون وجود لقاحات فعّالة.
مع غياب تعزيز الترسانة الطبيّة والوقائية والبحثيّة العلمية عبر العالم. وكأنّه محكوم علينا اليوم بالعجز في مواجهة الطوارئ الوبائية.
Comments