الجديد

كورونا وحاجة الدولة الى الدين

نورالدين الختروشي

لم تتأخر تونس عن جيرانها في الضفة الشمالية لتلتحق متثاقلة بزمن الوباء الذي خلفه ميلاد فيروس غريب في احدى قرى الصين وانتشر في العالم بسرعة ارعبت الجميع زمن الاوبئة زمن حرب بأمتياز، تكتشف فيه أنبل الاعماق الانسانية، تماما كما نتكشف عن عما تكتنزه الذات الانسانية من انانية و بشاعة وفحش. تمتحن الشعوب اخلاقها الفردية والعامة في خنادق الحروب عموما وفي زمن الاوبئة تحديدا.

كتبت في سياق سلسلة مقالات حول الديني والسياسي ان الدولة خاصة، وَالسياسة عموما لا تستحق الدين الا عند الافراح (الاعياد الوطنية والدينية) وعند الاتراح (الحرب أساسا) وان الاديان التي تزاحم السياسة في لعبة َالسلطة الرمزية والقوة المادية، سرعان ما تكفّ عن كونها أديانا، لتتحول الى ايديولوجيا.

تبدو حاجة الدولة لتأميم كل منابع السلطة الرمزية والاخلاقية لتحشيد الناس وراء حربها على الوباء، حاجة حيوية واحد اسلحتها الوظيفية الثقيلة في ادارة زمن الجوائح. كثيرون صدموا بمشاهد استفراغ المساحات التجارية الكبرى من المواد الغذائية في أوروبا العلمانية ، حيث من المفترض ان ان تكون بطانة القيم الانسانية والمواطنية المؤسسة للسردية اللائكية الحداثية، والمعممة كونيا، عاصما امام لهفة الناس وتسابقهم لحماية انفسهم من مجاعة ممكنة، كما هو حال ازمنة الحروب والتقاتل.

ولعل اكثر الصَور تعبيرا عن نضوب الخزان الاخلاقي في “الغرب العلماني” كانت تلك الصور والفيديوات المتداولة في منصات التواصل الاجتماعي في احدى اابلدان الاسكندنافية ، والتي تجسد اليوم في العالم زمن المطابقة بين قيم الحداثة والتاريخ، بالنظر لما اشتهرت به تلك ااشعوب من انضباط طوعي للقانون وتجسيد عيني للأخلاق العامة حتى خلنا ان مشروع “المدينة الفاضلة” الافلاطوني يمكن ان يتحول من يطوبيا ملهمة الى ممكن تاريخي ماثل.

في الدول الاسكندنافية حيث تكاد تنتفي الحاجة للوظيفة الاكراهية للدولة اكتشف العالم محدودية المائدة الجوفية للاخلاق العلمانية في التوقي من ثالوث الخوف والضعف والوهم لحظة وقوف الانسان أمام الموت. لا ادري اذا كانت حاسة التفلسف عند الغربيين ستلتقط المعاني السائلة على هامش فواحش الانانية وفوائضها التي تداعت من سلوك الناس وردة فعلهم امام الطاعون ،ولكن الاكيد ان تماسك الفكرة الوضعانية المنتصرة لسردية نأسس الاخلاق خارج مجال الميتافيزيقا والمقدس، تتعرض هذه الايام الى امتحان صعب وقاس ،تستوجب لحظة إعادة تفكير في مقدماتها الانطولوجية المؤسسة لاستبعاد المقدس من حيز الزمني ومطاردة العقل للمينافيزيقا واستفراغ التاريخ من الدور الوظيفي للدين.

في مجالنا الوطني والعربي الاسلامي عموما حيث الانسان عندنا كائن ديني بأمتياز، تتجدد مع “زمن الكورونة” مؤشرات قياس إيمان الناس بعقيدتهم ودينهم وتتعرض صدقية تدين العامة لامتحان معقد تتوزع مادته في هيكل مفارقة طريفة، حدُّها الجاذب الشعور بقرب النهاية وضرورة التوبة والتخلص من ادران الجسد، ونوازع اللؤم والانانية والغيرة والحسد، وحدّها الطارد غريزة الحياة والنجاة بالجلد والخلاص الفردي .

كان من اول الاجراءات التي اتخذتها الدولة تحوطا من انتشار الفيروس ألغاء الصلاة جماعة في المساجد والملاحظ ان المزاج العام وان همهم في الانضباط للتعليمات الرسمية فأنه قبلها بالنهاية بعد ان أطمئن ان الرحمة في صلاة الفرد وان حفظ النفس قبل حفظ الدين بقول المقاصديين. يعلم متوسط النباهة والذكاء ان شرط الانتصار في معركة الوباء هو التضامن الاهلي والانسجام الطوعي بين المبادرة الرسمية والسلوك العام وان منسوب التضامن المدني مع الدولة هو المحدد بالنهاية لنتائج استراتجيات الوقاية من انتشار الوباء. كثيرون أحالوا على تجربة التونسيين بعيد هروب المخلوع مع مبادرة لجان الاحياء التي قامت على مهمة حفطظ السلم الاهلي والامن العام بأقتدار عجيب ومذهل اثبت ان القيمة أرسخ من الدولة.

اليوم تحتاج الدولة الى الدين فزمن الاوبئة يهدد الوجود الفردي ويوشك ان يعصف بالموجود الاجتماعي والحضارى وفي معارك المصير تحتاج الدولة دائما لمنابع الاخلاق العامة وفي مقدمتها الدين ، تحتاج الدولة ان تقنع ان التضحية بالحياة الفردية فكرة مقبولة بشرط ان تفتح البقاء والخلاص العام من ممكن الابادة الجماعية.

هنا تتوسل الدولة على اعتاب الدين ليقرضها فكرة الامتداد والتوسع خارج حدود العقل والجسد لتقنع بقيمة الايثار لدى المصابين أساسا بفيروس الموت وتسليمهم بوجوب ان يموتوا لوحدهم رغم “قدرتهم الفائقة” على استصحاب العالم في رحلتهم نحو الفناء. لا نعرف سردية أقوى من كلمة الله في المكر بفكرة الوت والعبث بدلالته السالبة ، حيث نكنشف عند هذا الحد العمق الحميمي لفكرة البعث واليوم الاخر ودورها الوظيفي في مصادرة فكرة النهاية لصالح منزعنا العميق الى الخلود.

تتجدد حاجة الدولة للايمان والمقدس لان سلطتها تضعف وقد تنتفي زمن التحارب الداخلي من اجل البقاء، فتهرول الى المعابد والدير والمساجد بحثا عن كلمة تعيد ترتيب المعنى على منابع القوة في الدين كمخدر لمنزع الخلاص الفردي المتأصل في الفطرة الانسانية. فالدين أفيون الشعوب كما قال ماركس، ولم ينتبه مريدوه لللمقدمة المتفائلة عنده بالقدرة الوظيفية الكامنة في الدين للانتصار على فكرة النهاية، وضخها المستمر بمعنى الاستمرارية والخلود، فلم يتأولوا منها سوى معنى الاغتراب. التضحية بدم اسماعيل من اجل رضى الله والنجاة في الحياة الاخرى لم تعجب كيركيغارد ورأى فيها أنانية ابراهيم وحرصه على نجاته من غضب الله باراقة دم نجله الوحيد.

ولكنه سرعان ما انتبه في نصوصه اللاحقة الى حجم الانقلاب في المعنى والدلالة على صراط المسافة بين الخوف والخشية. لا نحاف من المصائب لاننا نخشى الله. فمخزون الخوف والرعب من النهاية تتلقفه الخشية من غضب الله الذي احتكر وحده رفاهة التحكم في الارادة والقدر.

في البداية والنهاية.. في الحياة والموت هكذا تكلم الحبر والكاردينال والامام . لعبة تحويل المعنى أتقنتها كل الاديان لذلك ستتسابق الدولة بكل الوعي وبكل القدرة وبكل الجهد للاستنجاد بالدين في حربها الشرسة ضد فيروس كورونا اللعين فوحده الدين تمرن على تطويع الرعب من الموت ونجح دائما زمن الحروب في اقناع الغالبية بالطمأنينة المرحة والهادئة الى صلابة القناعة بأن رحمة القدر أقوى من لعنة التاريخ .

 

*** المقال، صدر في عدد اليوم من جريدة “الرأي العام”، الخميس 19 مالرس 2020

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP