كيف أكلت ديمقراطيتنا الديمقراطيين؟
خالد شوكات
تابعت خلال اليومين الماضيين عددا من الكتابات والتقارير الصحفية التي تشيد بالمناضلة الديمقراطية الراحلة ميّة الجريبي رحمها الله، وهي أهل لكل تكريم حيّة وميّتة، وعندما ارى اشادة المشيدين بنضالها ومدح المادحين لخصالها اليوم، أقول مالنا لم ننزلها منزلتها التي تستحق بعد الثورة، فقد خذلت المسكينة ولعلّها ماتت كمداً بعد ما رأته من سوء التقدير في سنواتها الاخيرة. أذكر أيضا الشهيد شكري بلعيد، الذي تحوّل الى أيقونة بعد استشهاده رحمه الله، ودمه قد عمَّد مسار الانتقال الديمقراطي، فضلا عن دم الشهيد محمد البراهمي، وقد شارك الشهيد شكري بلعيد في انتخابات المجلس التأسيسي لكنّهُ لم يحرز غير ألف وبضع أصوات وخسر الاختبار الشعبي في ان يكون عضو المجلس التأسيسي، بينما شغل العضوية عشرات ممن لا تاريخ نضالي لهم ولم يسمع لهم ركز قبل الثورة او عرفوا بموقف.
وكذلك حال الاستاذ نجيب الشابي، الذي جمع بين مصداقية نضالية تناهز نصف قرن من المعارضة وموسوعية ثقافية وقدر لا بأس به من الحكمة، فماذا كان حاله طيلة هذه السنوات الماضية الا مواجهة الجحود والنكران، بل لعل مقامه وهو يواجه أنظمة وحكومات ما قبل الثورة أجَلُّ وأرقى، حتى بلغ به الامر الى حفظ ماء الوجه بعدم الترشّح لانتخابات الرئاسة التي أوصلت الى دورها النهائي شخصيتين لم تكن لهما صلة يوما بالمشروع الديمقراطي ولا سِجلّ لهما التاريخ موقفاً واحدا معارضا للديكتاتورية، بل لربما كانا اميل الى التطبيع معها والاستفادة من الصلة بها.
وحال الاستاذ نجيب الشابي لا يبعد كثيرا عن حال الدكتور منصف المرزوقي، فَلَو لا ان أفلت بثلاث سنوات من الرئاسة الانتقالية، التي كانت تجربة ذات وجهين، وجه فيه نوع من التكريم لمسيرة الرجل النضالية الطويلة من اجل الديمقراطية، ووجه آخر فيه بهذلة وإهانة ما بعدها إهانة، لكانت الحصيلة بائسة انتهى معها الى هزيمة انتخابية مهينة اضطرته الى اعتزال السياسة، ويا للمفارقة فعندما كان الدكتور المرزوقي يرفع شعار ان هذا النظام لا يصلح ولا يصلح كان اخرون ممن هم اليوم في السلطة مكلفون بمهام غير مشرّفة.
هناك عشرات الاسماء التي كانت تكافح من أجل الديمقراطية، وقد دفعت ثمنا غاليا من التضحيات، سجناً ومنفاً وطردا وتشريدا، لم ينصفها مسار الانتقال الديمقراطي ولم تعدل معها الديمقراطية، ومن هؤلاء أصدقاء اعزاء كالأستاذ عبد الوهاب الهاني الذي اعلم شخصيا ماذا قدم من منفاه للقضية الديمقراطية قبل الثورة، الى درجة نسي نفسه معها فلم يتزوّج ولم يكوّن عائلة، واضطرته مرارة خذلان رفاق وأخوة الامس الى العودة الى المنفى الاختياري هذه المرة.
وحال الاستاذ عبد الوهاب لا يختلف عن حال الصديق الدكتور احمد القديدي اهم رفاق الراحل الاستاذ محمد مزالي الذي قاسمه المحنة والنضال من اجل الحرية والديمقراطية والكرامة الشعبية ووجد نفسه مضطرا للبقاء في دار الهجرة بعد ان خذله واقع ما بعد الثورة. الاسلاميون ايضا، الذين تمكنوا من الوصول الى الحكم والمشاركة فيه طيلة السنوات التسع الماضية، لم تشذ سيرتهم عن هذه القاعدة، فمن ناضل منهم وسجن ونفي وتشرد، أبعدوا عن دائرة الفعل والقرار، وجيء بأناس لم تعرف لهم سيرة نضالية أو تضحية.
علي العريض او حمادي الجبالي او العجمي الوريمي وغيرهم كثرٌ أسماء لم يعد مرغوبا فيها لأن آلة التشويه أدركتها ودمّرتها. الدكتور الهامشي الحامدي مثال آخر من الذين ظلموا في هذه المرحلة، مرحلة يصدق عليها ما قيل في المرحلة التي تلت الثورة الفرنسية، عندما ذبح الثوار بعضهم، حتى قيل الثورة اكلت ابناءها، فعندما كان الهاشمي الحامدي يستضيف جميع قادة المعارضة الديمقراطية في لندن ليخاطبوا الشعب التونسي عبر قناته التلفزيونية، كان بعض من يشارك في مؤسسات الحكم اليوم يصرخ ممجّدا الحاكم وشاتما معارضيه، وها قد أكلت الديمقراطية جل أبناءها وأصبحت “ملطشة”.
لم يكن الديمقراطيون ملائكة، ولا كانت سيرتهم خالية من الضعف كسائر البشر، لكنهم لما خذلوا بعضهم وتنازعوا فيما بينهم ولم يحفظوا أقدار بعضهم، أضاعوا امانة الحكم وضيّعوا المشروع وميّعوا القضية حتّى سامها كلّ مفلس وتطاول عليها “إلّي يسوى وإلّي ما يسواش”.. لو اعترفوا ببعضهم من اللحظة الاولى وتنازلوا لبعضهم البعض ما كانت الامور تتهاوى الى هذه الدرجة.. درجة يترحم فيها ضعافنا على ايام الطغاة، وهو ما حذّرت منه حرفيا في مقدّمة كتابي “انهيار الصنم” المنشور سنة 2004، اي ست سنوات قبل الثورة.
Comments