كيف انتصرت “البيروقراطية” على “الديمقراطية”؟
د.خالد شوكات*
حتى عندما يتعلّق الأمر بقضية مركزية كبرى مثل “القضية الفلسطينية” التي يبلغ مداها الوطني حدّ الاجماع أو ما يشبه الإجماع، فإن البيروقراطية – لا الثورة ولا الديمقراطية – هي من فرضت قواعدها وانتصرت في النهاية، بعض الهذر الغاضب المحتمل في مجلس النواب، والادعاء المزعوم بنصرة المقاومة والقضية.
ولكن في نهاية الأمر تستطيع مجموعة صغيرة من الموظفين السامين في وزارة الداخلية، ممن لا يظهرون في وسائل الاعلام ولا يشنّفون الاذان بدعم الثوّار والمقاومين في فلسطين، أن يقرروا السياسة الحقيقية تجاه القضية الفلسطينية، كأن يرفضوا مثلا منح قادة المقاومة حق الدخول الى تونس والحديث مباشرة إلى التونسيين.
وتلك قصة طويلة عجيبة، ليس هنا مقام ذكرها، وليس لدي رغبة هنا في تزكية نظريات المؤامرة وتغلغل الطابور الفرنكو-صهيوني في دواليب الدولة بطرق ملتوية وخفية، فتلك أشياءَ لا أملك وثائق وأدلة ملموسة تثبتها، على الرغم من مؤشرات لمستها منذ كنت عضوا في الحكومة، لقد كانت السلطة الحقيقية في الدولة عند البيروقراطيين ولم يكن للوزراء قدرة كبيرة على المقارعة، ناهيك عن فرض رؤيتهم، وغالبيتهم قد أتت بهم مقادير الصدفة والغنيمة، فلا رؤية لهم أصلاً.
والأمر لا يختلف حقا اذا ما تعلق بالسياسة الداخلية، فالبيروقراطية – لا الإدارة- هي من يحكم ويقرر، وقد ألقت ببعض الفتات في الهامش للديمقراطية و”الديمقراطيين”، والبيروقراطية هي عقل سياسي خلافا للإدارة التي هي جهاز طبيعي ووسيلة من وسائل الدولة، وهي منظومة قواعد وأعراف ومصالح تتمرتس في الادارة بالدرجة الاولى.
ولست ابالغ اذا قلت أن افضل الأنظمة تمكينا للبيروقراطية للأسف هي مثل هذه الديمقراطية العاجزة التي اعتمدنا، ومن هنا فإن “الحزب البيروقراطي” أضحى الحزب الاول في البلاد، باعتباره حزبا باطنيا يهيمن على السلطات الثلاث بوضوح، ولا تملك له أحزاب الظاهر من الأمر شيئا.
وكذا الحال على الصعيد المحلي والجهوي، فقد أفرغ البيروقراطيون المشروع اللامركزي من محتواه، بل جعلوه في نظر العامة مجرد عمل تافه لمجموعة من المشاغبين الذين يخاصمون طواحين الهواء، ذلك هو حال رؤساء البلديات، في مقابل تواصل هيمنة المعتمدين والولاة قادة الحزب البيروقراطي غير المعلنين في الجهات.
ولنعد إلى مؤسسات الحكم مثلا، وكيف دفع الحزب البيروقراطي رئيس الجمهورية، مستثمرا خصائص الرجل العجيبة الغريبة، ليكون خير ميسّر لمزيد من التمكين للحزب البيروقراطي.
فقد أعلن السيد الرئيس الحرب على المعسكر الديمقراطي أحزابا وبرلمانا وشخصيات، ليسلم السلطة للبيروقراطيين، وهكذا فهو عاجز اليوم على تقديم اي شيء حقيقي ملموس لفلسطين، عدا مكالمة تلفونية يتيمة مع اسماعيل هنية، أو “بينس” العلم الفلسطيني يوشح به بدلته في زيارته الفرنسية، ولست متأكدا إن كان بمقدوره تحدي السلطة البيروقراطية بدعوة هنية لزيارة الاراضي التونسية.
ومن إنجازات البيروقراطية الحاكمة أن جعلت البلاد بلا مشروع حضاري للتقدم، وبلا قيادة سياسية حقيقية منذ نالت الاستقلال، فالبلاد تسير “سبهللا”، سياساتها ترقيعية، وواقعها مزدحم بالكسل جراء الإضرابات والاحتجاجات المنتشرة في كل الجهات وفيّ جميع القطاعات، والتونسيون خائفون في غالبيتهم جراء غياب الرؤية وضبابية المستقبل وعدم الثقة المتنامي فيمن يرونهم في الظاهر يحكمون وهم لا يحكمون.
لقد تسلل البيروقراطيون إلى جميع مؤسسات الدولة والحكم، وفرضوا بحجّة تنازع القوى السياسية وانقسامها، أنفسهم على القضاء والبرلمان (عبر الكتل البيروقراطية) والحكومة (حكومة البيروقراط لا التكنوقراط) وفي باقي المؤسسات، وجل الشركات العمومية التي هي ايضا بيد ادارة بيروقراطية تمدد الأزمات وترحلها ولا تحلها، وهكذا تتعاظم كل يوم مؤشرات الافلاس وتشتعل علامات الخطر الحمراء في كل مكان.
وبالمقابل، فإن الديمقراطيين، بما في ذلك أولئك الذين يحسبون أنفسهم داخل السلطة وما هم بداخلها، جرى ابعادهم وتهميشهم وإقصاؤهم عن مراكز الفعل والقرار، مع تحمليهم في الوقت نفسه وزر الأزمة والسقوط وثمن التداعي والانهيار، فالبيروقراطْ قومٌ يأخذون نصيبهم من الربح والغنيمة، ولا يتحملون المسؤولية أبدًا، ولماذا يتحملون المسؤولية أمام شعب لم ينتخبهم أو يفوضهم أو يمنحهم تكليفاَ.
خيالُ ديمقراطي جاوز الخمسين، عارض الرئيسين بورقيبة وبن علي لعقود، عاجز حقّا عن وصف ما يحصل، فخياله مهما كان خصباً لم يسعفه عندما كان في السجن أو المنفى، تخيل إمكانية وجود هذا الواقع السريالي، موت السياسة التي عجز رئيسان مطلقان لمدة تجاوزت النصف قرن عن إماتتها، فإذا بها الآن ميتة، فضلاً عن هذا الفراغ الرهيب الحاصل على صعيد القيادة الوطنية ومشروع التقدم الحضاري، فكيف أدركنا هذا المشهد السوريالي البائس، ولماذا قادت الديمقراطية أحوالنا إلى عكس المتوقع منها تماما، وكيف حقق “البيروقراطيون” ما عجزوا عن تحقيقه في سياق الأنظمة الإدارية السابقة!؟
كل تلك الأسئلة حريّ بِنَا طرحها والعمل سريعا للإجابة عليها، عسى يكون بمقدورنا تصحيح الوضع قبل فوات الاوان، إن لم يكن قد فات الاوان حقّاً؟
Comments