كيف جرى الانحراف بالعائلة الدستورية من “الإصلاح” إلى “الفاشية”؟
خالد شوكات
تعتبر العائلة الدستورية (وممثلها التاريخي حزب الدستور) سليلة أصيلة للعائلة الإصلاحية والوطنية التونسية. العائلة الاصلاحية التي برزت في القرن التاسع عشر من خلال كوكبة علمية زيتونية وإدارية سياسية حديثة، تطالب بجسر الهوة الحضارية مع الغرب واستئناف حركة التقدم بتجديد الدين، أي الاسلام، وإصلاح الدنيا، أي المجتمع والدولة، وكانت غاية المصلحين التونسيين حينها تفادي السيناريو الجزائري وانقاذ البلاد من احتمالية الاحتلال المتربص بالأبواب، لكن عند وقوع المحظور بتوقيع الباي معاهدة باردو سنة 1881، تحولت هذه الحركة إلى الطابع الوطني في تحرير البلاد من الاستعمار دون تخليها عن طبيعتها الاصلاحية، مستمرة في جهادها على الجبهتين، فعندما أسس الشيخ عبد العزيز الثعالبي الحزب الحر الدستوري سنة 1920، كانت قاعدته الصلبة التي وقف عليها قاعدة اصلاحية وطنية بامتياز، اتسمت بقدر لا بأس به من الواقعية والتمسك بقيم الاعتدال والوسطية، وبالتشبث بذلك المزيج الحكيم من الأصالة والمعاصرة، وكان هذا المنهج محددا في بناء استراتيجية نضالية خاصة، لطالما ابتعدت عن العنتريات والراديكالية دون التفريط في ثوابت الهوية الوطنية والاستحقاقات الشعبية.
فلّما أدرك التونسيون الاستقلال سنة 1956، واصبح حزب الدستور بارادة الخط البورقيبي حزبا حاكما وحيدا في البلاد، بذريعة التفرغ لبناء الدولة المستقلة وضرورة الوحدة القومية لربح رهانات التنمية الصعبة، كانت الأصوات الاولى المطالبة بالإصلاح السياسي والعودة للتعددية، أصواتا دستورية بالدرجة الاولى، استهلت برسالة المناضل النقابي الدستوري الزعيم احمد التليلي منتصف ستينيات القرن العشرين، وتعززت خلال عقد السبعينيات بعدة انشقاقات طالت الحزب الاشتراكي الدستوري (الاسم الجديد للحزب الحر الدستوري بعد مؤتمر بنزرت سنة 1964 واستجابة لاحتياجات تجربة التعاضد)، الانشقاق الاول كان بقيادة والأستاذ احمد المستيري ومجموعته التي كان من ابرزها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، والتي ستتحول لاحقا الى حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، والانشقاق الثاني بقيادة الاستاذ احمد بن صالح والذي ستظهر من خلاله حركة الوحدة الشعبية.
أما خلال عقد الثمانينات، ودائما من داخل العائلة الدستورية، فسيبرز صوت الاستاذ محمد مزالي رئيس الحكومة الذي سيعمل مع رفاقه طيلة ست سنوات، وفي ظل ظروف شديدة الصعوبة والمكر والحيلة ناتجة عن الصراع المحموم حول خلافة الزعيم بورقيبة، على إصلاح النظام السياسي المتهافت وضخ جرعات من الديمقراطية والتعددية السياسية، سواء بإقناع الرئيس باهمية الاعتراف ببعض احزاب المعارضة، او محاورة الإسلاميين الذين بدا نجمهم حينها صاعدا جراء الثورة الاسلامية وانهيار المنظومة الاشتراكية، أو كذلك تحرير المشهد الإعلامي بالسماح لجرائد المعارضة بالصدور. لقد كان زمن سي محمد مزالي ربيعا ديمقراطيا حقيقيا قياسا لما سبقه وما سيليه.
وأما وصول الرئيس بن علي الى السلطة بعد تنحية الزعيم بورقيبة في 7 نوفمبر 1987، فلم تكن شرعيته مستمدة الا من خلال تلك الاشواق الديمقراطية التي ساهم قادة العائلة الدستورية تباعا في تفجيرها، وهو ما يمكن التأكد منه سواء من خلال مضمون البيان الذي برر التخلي عن مؤسس الدولة المستقلة وزعيم الحركة التحررية الوطنية، او بنجاح التغيير البنفسجي في استقطاب عدد من الشخصيات السياسية والحقوقية المعروفة بنضالها الديمقراطي وإلحاقها بالتجمع الدستوري الديمقراطي الاسم الجديد لحزب الدستور والذي سيتخلى من خلاله عن الصفة الاشتراكية التي ميزت عقدي الستينيات والسبعينيات لصالح الصفة الديمقراطية التي ستعبر عن حاجة النظام الى تجديد عقيدته مسايرة المتغيرات الوطنية والاقليمية والدولية.
وعلى الرغم من الانحراف الكبير الذي سيشهده نظام الرئيس بن علي وانقلابه التدريجي على وعوده الاصلاحية والديمقراطية وتفضيله على مراحل بناء نظام تعددي صوري يقوم على مؤسسة رئاسية فردية تسلطية النزعة، بذرائع ومبررات شتى، خاصة منها مواجهة الحركة الاسلامية، الا ان المعارضة السياسية التونسية لم تخلو من أصوات دستورية تبرأت من سياسات النظام المتعلقة بالشأنين السياسي والحقوقي، وحافظت على شراكة التيار الدستوري الكاملة في مشروع إقامة دولة وطنية ديمقراطية تحترم الحرّيات العامة وحقوق الانسان.
قلما انتصرت ثورة الحرية والكرامة في 14 جانفي 2011، ظلت القيادات الدستورية تقوم بدورها الوطني في الحفاظ على الحلم الوطني الديمقراطي، ومن هنا برز الزعيم الباجي قائد السبسي كشخصية دستورية محورية في لحظة استثنائية في تاريخ الوطن الحديث والمعاصر، للقيام بوظيفته كزعيم للطور الثالث من أطوار الحركة التونسية، فبعد الشيخ عبد العزيز الثعالبي زعيم المرحلة الاصلاحية، والرئيس الحبيب بورقيبة زعيم المرحلة الوطنية، أتى دور الرئيس الباجي قائد السبسي زعيم المرحلة الديمقراطية، حيث سيساهم هذا القائد الاصلاحي الوطني الدستوري من خلال نزعته المبدئية الواقعية في تحويل الحالة الثورية الى مسار للانتقال الديمقراطي ومشروع للمصالحة الوطنية يهدف الى بناء الجديد من خلال مساهمة القديم، والنأي بالبلاد عن مخاطر الاجتثاث والاقصاء وفسح الطريق لمساهمة كل التونسيين بجميع تياراتهم وقواهم الفكرية والسياسية في تشييد تونس الجديدة.
لقد كان الزعيم الباجي قائد السيسي منذ تولى رئاسة الحكومة سنة 2011، مرورا بتوليه تأسيس حركة نداء تونس كتجربة تجديدية لحزب الحركة الاصلاحية الوطنية الدستورية بين 2012 و2014، وانتهاء برئاسته للجمهورية (2015-2019)، تجسيدا إيجابيا حيّاً لأسس ومبادئ وقيم وتوجهات وخصائص العائلة الدستورية عبر مختلف المراحل التي مرت بها، على نحو تراكمي تكاملي، حيث تمسك بمسؤوليته في تجديدها على أسس اصلاحية ووطنية وديمقراطية تدعمت عبر التجارب والعقود، وفي مواجهة معارك الوطن الكبرى، معارك الحرية والتنمية والديمقراطية.
إن عملية السطو الاسمي على العائلة الدستورية، وتحريف طبيعتها من نزعتها الاصلاحية الأصيلة الى نزعة فاشية وشعبوية مستجدّة خطيرة، هي عملية مغامرة ومقامرة شديدة الخطورة وخيمة العواقب، شبيهة تماما بتلك العملية التي قادها الرئيس الامريكي ترامب طيبة السنوات الاربع الماضية وتلاعب من خلالها بتراث حزب عريق كالحزب الجمهوري الامريكي ساهم عبر عقود طويلة في بناء واحدة من أعظم الشعوب والامم والديمقراطيات، ولا اظن دستوريا أصيلا مستوعبا لقيم العائلة الدستورية ومبادئها ومنجزاتها في خدمة الوطن تنطلي عليه حيل هذه المرأة الطارئة الجاهلة بتاريخ هذا التيار العريق او بمقدوره أن يصدق مزاعمها، فالحركة الاصلاحية الوطنية الدستورية تتناقض بنيويا وتاريخيا مع فلسفة الحركات الفاشية القائمة على تبرير وتجذير مشاعر الحقد والكراهية والتقسيم والاقصاء بين المواطنين، كانت احرص مع يكون على الوحدة الوطنية وترفض التضحية بمصالح الوطن العليا لتحقيق أهداف مرحلية ضيقة وأنانية.
إن سيرة زعماء العائلة الكبار الثلاثة، على مر المراحل والتجارب، الثعالبي وبورقيبة وقائد السبسي، تخالف تماما في طبيعتها الاصلاحية والتجديدية والديمقراطية كل سيرة فاشية بائسة ورديئة ومتهافتة فكريا وسياسيا، وذلك هو فصل المقال فيما بيننا وبين هذه المرأة الدعيّة من اتصال.
Comments