كيف هُزِمْتُ أمام ثلاثية الجابري؟
بقلم: د. خالد شوكات*
هناك كتابان اثنان غيّرا مجرى حياتي، الثاني هو كتاب المهاتما غاندي “تجاربي مع الحقيقة” الذي حررني من كلّ نزعة عنفية وقوَّى فيَّ النزعة الانسانية والروحانية، أما الأوّل فهو كتاب الدكتور محمد عابد الجابري “العقل السياسي العربي” الذي يشكل الجزء الثالث من مشروعه الفكري المميّز “نقد العقل العربي”، والذي طرح فيه نظريته غير المسبوقة في تمحيص التراث العربي الاسلامي في روافده الثلاثة البيان والبرهان والعرفان، من خلال ثلاثة محدّدات رئيسية مفتاحية هي “القبيلة” و”الغنيمة” و”العقيدة”/الأيديولوجيا، لم أجد أبلغ ولا أصوب ولا أسلم منها في قراءة الواقع السياسي العربي، في أطواره المبكرة والمتوسطة والراهنة.
على الرغم من مساعيَّ الدؤوبة طيلة ربع قرن في قراءة كل ما طالته عيناي من كتب وبحوث ودراسات تهم الموضوع نفسه أو اشتغلت على نقد اطروحات الجابري ودراستها.
وكان فضل كتاب الجابري عليَّ، وخصوصا محدداته المفتاحية الثلاثة المذكورة، في أنه حرّرني من سطوة السردية الاسلامية (الاسلام السياسي)، وجعلني انتبه لأوّل مرّة إلى ان هناك قراءات اخرى – اكثر اقناعاً- للتراث الاسلامي، وخصوصا للاسلام المبكر، من تلك البكائية/اللطمية التي لطالما وجّهت عقولنا ونحن طلبة في الثانوية او الجامعة، وساهمت في تعبئتنا في اتجاهات تقصر الحقيقة على نفسها وتصوّر الماضي باعتباره جملة من المؤامرات المستمرة على دين الله ودولة الاسلام،
التي يجب ان يعمل المسلمون اليوم على مقاومتها سعيا لاستعادة أمجاد الأمة وهزيمة أعدائها، وذلك دون القيام باي عملية نقدية جدية لتراثنا نقف من خلالها على نقاط الضعف والهوان ونؤسس فيها لأرضية فكرية عقلانية صلبة لحركة الاصلاح المطلوبة.
وما رغبت في الإشارة إليه من خلال هذه المقالة الموجزة، اذ لا تفي اطروحات الجابري مثل هذه الاعمال المختصرة حقها ولا قيمتها، هو وقوفي العملي الملموس طيلة السنوات التسع الماضية، المسدّد والمؤيد لوقوفي النظري السابق، على مصداقية ثلاثية القبيلة والغنيمة والعقيدة/الأيديولوجيا في قراءة الواقع السياسي التونسي وتحليله وتسطير الدروس المستفادة منه (باعتباره عيّنة ساطعة من الواقع السياسي العربي)،
فما كان متوقعا من تجربة الانتقال الديمقراطي وما كان منتظرا من المسار الثوري من تحقيق لأهداف تقدمية وانسانية، اصطدم بحقائق عقل سياسي لم يتحرر بعد من سطوة القبيلة بتجلياتها المعاصرة (العائلة/المنطقة/العرش)، ولا سلطان الغنيمة بمعنى النظر الى الدولة باعتبارها “تورته قاطو/كعكة حلوى” يجري التكالب على قسمتها، ولا المنطق العقائدي/ الايديولوجي المغلق الذي يجعل من الانتماء السياسي والفكري سابقا على “المواطنة” والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
ودعوني اختتم المقالة بمثالين حيّين عشتهما، في مسيرة عملي السياسي والمدني التي انخرطت فيها ساعيا ما وسعني الفكر والعمل على التحرّر من تبعات الثلاثية وتجلياتها السلبية:
المثال الاول يخص مساهمتي في تأسيس وبناء حركة نداء تونس كمشروع سياسي عصري جرى التأكيد في أدبياته ووثائقه التأسيسية على أنه حزب مدني عصري وطني ديمقراطي حداثي مواطني، لكن الأحداث المتواترة أثبتت في جميع محطاته الاساسية بين سنتي 2012 و2019 على الاقل، انه لم يتمكن للاسف – كما سائر مكوّنات المنظومة الحزبية الجديدة- من تخطّي عقبات القبيلة والغنيمة والعقيدة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح، سواء عند تكوين قائماته الانتخابية أو تقديم مرشحيه للمواقع الوزارية أو في بناء أجهزته القيادية.
أما المثال الثاني يخص مشاركتي في الانتخابات البرلمانية الاخيرة في دائرة سيدي بوزيد، وهي المنطقة التي انطلقت منها شرارة الثورة، لكنها ظلت منطقة “القبيلة/العرش” بامتياز، فقد ترشحت على رأس قائمة حركة النداء تونس، وانا ادرك سلفاً انني اخالف الطبيعة القبلية/العروشية المهيمنة تماما، وكنت اذكر هذا للمواطنين إبان الحملة الانتخابية، فانا انتمي قبليًا لأقلية الأقلية كما يقال، اذ ان سيدي بوزيد جهة يشكّل فيها عرش الهمامة أغلبية، وانا لست “همّاميا” من هذه الأغلبية، بل انحدر من معتمدية المزونة “واحدة من 13 معتمدية تتشكل منها الولاية”، غير انني في المزونة لست من أغلبية “المهاذبة” التي تهيمن على 7 من 9 عمادات، ذلك انني من عمادة “الفوني” الواقعة على اطراف سيدي بوزيد والمزونة، غير بعيدة عن البحر وصلاتها بولاية صفاقس ومعتمدياتها الجنوبية أوثق سوسيولوجيا وتاريخيا، وحتى في هذه العمادة فإن جماعة “الشوكات” تشكل أقلية عدديا قياسا الى جماعتي “العوين” و”الربايع” اللتين تستوطنان هذه العمادة أيضا.
وبالعودة الى النتائج التي حققتها، فان النظر فيها يجزم بما لا يدع مجالا للشك الى ان محدد “القبيلة” كان الدافع الاساسي في توجيه ميول الناخبين، وهكذا تجدني الأوّل في مركز الشوكات حيث يقطن اهلي على مستوى عمادة الفوني، وتجد ان افضل نتيجة حققتها على مستوى الولاية هي تلك التي تحققت في معتمدية المزونة قياسا بغيرها من المعتمديات، وعلى الرغم من انني كنت على مستوى السيرة العلمية والتجربة السياسية الافضل تقريبا بين جميع المرشحين والأكثر إشعاعا على المستوى الوطني بشهادة الخبراء والمحللين (النزهاء والموضوعيين طبعا)، الا انني لم اتمكن من هزيمة ثلاثية الجابري، سواء على الصعيد الحزبي أو على الصعيد الانتخابي..
ولست واثقا اذا ما كان العمر سيمكنني من جولة أهزم فيها هذه الثلاثية العنيدة على التاريخ والحركة الاصلاحية منذ قرنين من الزمان على الاقل. أخيرا، أودّ لفت الانتباه الى مسألة تستحق الدراسة والتحليل، وهي ان البيئة التي وفرها الانتقال الديمقراطي كانت اكثر ملاءمة لظهور سطوة الثلاثية قياسا بما كان عليه الحال في ظل الأنظمة التسلطية السابقة التي كانت اقدر على لجم هذه السطوة في اختيار عناصرها ومكونات اجهزتها السلطوية (حكومة/ برلمان/ جماعات محلية)، وربما يعود ذلك الى معطى الحرية التي لا تُمارس في بداياتها بشكل عقلاني ومسؤول، فهل يجوز ان تشكل الديمقراطية مدخلا للعودة بالمجتمعات الى الخلف تاريخيا، أم ان الامر مرحلي مرتبط بالحقب التأسيسية؟
*المدير التنفيذي لحركة نداء تونس
Comments