ليبيا: هل تحولت الى دولة فاشلة.. ماهي سيناريوهات المستقبل ؟
منذر بالضيافي
بعد أكثر من 7 سنوات على ثورة 17 فبراير 2011، وسقوط نظام معمر القذافي، الذي حكم ليبيا أكثر من أربعين سنة، تشير جل التقارير والتقديرات، وكذلك نتائج المؤتمرات التي عقدت هنا وهناك واخرها في باليرمو الايطالية، أن ليبيا بصدد التحول وبسرعة كبيرة، الى دولة فاشلة. فعلي خلاف ثورتي تونس ومصر، حيث استمرت الدولة بعد سقوط النظام، نظرا لتجذر ارث الدولة المركزية. فان الوضع في ليبيا كان مغايرا تماما، فمع سقوط النظام انهارت وتفككت الدولة بكل مؤسساتها، بما في ذلك المؤسسة العسكرية، لنكتشف ضعف نظام القذافي وغياب الدولة خلال فترة حكمه.
لعل هذا ما يفسر حلول كل مظاهر التقاتل، الذي غذته المليشيات وانتشار السلاح، والتفكك حيث برزت للسطح النزعة الاستقلالية والمناطقية، فضلا عن الانقسام المجتمعي والسياسي بين الشرق والغرب. هذا المشهد سمح ويسمح الي اليوم بتوفير كل العناصر المحفزة على الفوضى، التي تعمقت أكثر مع التدخل الإقليمي والخارجي، لتنزلق معه ليبيا نحو الحرب الأهلية، التي يتوقع أن تستمر بعد تمترس القوي السياسية، وراء المليشيات المسلحة والعمق القبلي، وسقوط كل ورقات الحل بيد العامل الخارجي.
في ظل هذا المشهد المضطرب والمفكك، وجدت التنظيمات الإرهابية و “الجهادية”، مثل “القاعدة” و “داعش” و أخواتها الفرصة مناسبة للتمدد، مستغلة حالة الفراغ المؤسساتي والفوضى التي زادت تناقضات الفاعلين السياسيين في تغذيتها. وبهذا أصبحت البلاد مرتعا لهذه الجماعات، التي بايع بعضها تنظيمات إرهابية عابرة للحدود، مثل “القاعدة” وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. وهو ما ساهم في مزيد تعقيد الوضع الليبي، وزاد في تأخير فرص الحل أو التسوية.
يعرف الوضع الليبي الحالي، بأنه شديد التعقيد، فهو يتسم أساسا ب “حرب الكل ضد الكل”، وفق عبارة فيلسوف العقد الاجتماعي توماس هوبز (1588-1679، فيلسوف إنجليزي عاش في القرن السابع عشر، في فترة تميزت بالاضطرابات والقلاقل، عانى خلالها المجتمع الإنجليزي من ويلات الحرب الأهلية.)
فكل مكونات المشهد الليبي الحالي، دخلت في صراع على قاعدة “إلغاء الآخر”، صراع يدور حول “الغنيمة” (الثورات البترولية الهائلة) و “النفوذ” بما يعني من إصرار كل طرف أو جهة على حسم الصراع لصالحه، وهي عملية تبدوا غير ممكنة، إن لم تكن مستحيلة على الأرض. ولعل هذا ما يفسر عدم قدرة الفاعلين السياسيين على الحوار وإيجاد تسوية داخلية توقف نزيف الانزلاق نحو “الانهيار الكبير”، نحو حرب أهلية ستخلف الدمار وتنسف ما تبقي من أسس ومقومات الدولة. اذ نلاحظ استمرار الطابع الدموي، الذي صاحب الانتفاضة الليبية، منذ بدايتها، بعد أن عمد نظام القذافي إلى عسكرتها، لتأخذ منعرجا أكثر دموية مع التدخل العسكري الأجنبي، الذي عمد إلى استيعاب الحراك الثوري، ثم تحويله عن مساره.
نحاول في هذه الورقة، التطرق إلى ثلاثة عناصر كبري، في مقاربة المشهد الليبي الراهن وآفاق تطوره في المستقبل القريب، فكل السيناريوهات (التي هي نماذج مثالية) لا يمكن لها أن تتجاوز أفق السنة في وضع داخلي واقليمي، أيضا دولي متحرك بسرعة، يستحيل معها وضع سيناريوهات على مدى متوسط أو بعيد، على أن ما يجب الاشارة اليه في خصوص مستقبل ليبيا، أن العامل الخارجي محدد أكثر من الداخلي، ان لم نقل أنه متحكم ومحدد له..
لفهم المشهد الليبي في شموليته، سوف نتطرق في ورقتنا هذه الى العناصر الثلاثة التالية:
1/ رصد الواقع/الوضع الليبي “الآن وهنا”، كما هو ماثل أمامنا على الأرض ، ومختلف الفاعلين فيه من تنظيمات سياسية وميليشيات مسلحة وقبائل وجماعات “جهادية” (لعل أبرزها تنظيم “داعش”).
2/التحديات العديدة والمركبة، التي تواجه إنهاء المرحلة الانتقالية، التي استمرت أكثر من اللزوم، دون بروز مؤشرات على أنها ستنتهي قريبا.
3/استشراف المستقبل، عبر تصور السيناريوهات الممكنة، التي يمكن أن تتجه نحوها الأوضاع في ليبيا.
أولا: الواقع الليبي
عرض المشهد الليبي الحالي، كما هو على الأرض، يقتضي بالضرورة وصف وتحليل التفاعلات الجارية، سياسيا وامنيا ومجتمعيا وأيضا إقليميا ودوليا، مع التركيز بالأساس على العناصر الرئيسية المتحكمة فيه، والتي يتوقع أن يستمر تأثيرها في المستقبل، وبالتالي تجنب الخوض في التفاصيل، وهي كثيرة ومعقدة تعقد الوضع ذاته.
الوضع الإنساني في ليبيا “مزر”، لدرجة أن مواطنين ليبيين أقدموا على “كسر أسنانهم لاستخراج الذهب وبيعه من أجل الحصول الطعام”، هكذا يصف مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا مارتن كوبلر الحياة في هذا البلد، في مقابلة مع “راديو سوا”.
يضيف كوبلر “إن ما نحو 60 في المائة من المستشفيات توقفت عن العمل، وأن 40 في المائة من السكان بحاجة “ماسة” إلى مساعدات إنسانية، وهذا “أمر غير طبيعي في بلد غني بالنفط”./1/.
تحت عنوان “الشتاء العربي” نشرت مجلة “الايكونوميست” مقالا تطرقت فيه إلى حصيلة خمسة سنوات من “الربيع العربي”. خلصت فيه إلى انه “انقضت خمس سنوات منذ موجة الثورات، والعالم العربي أسوأ من أي يوم مضى. لكن الناس يفهمون مأزقهم على نحو أفضل”.
وتضيف المجلة “المحزن ان الحصيلة تظل شاذة على نحو صارخ. فهناك ست دول عربية شهدت تظاهرات سلمية عارمة طالبت برحيل الحكام الممقوتين في ربيع العام 2011، لكن أيا من هذه الثورات لم يصل الى خاتمة سعيدة. دمرت ليبيا واليمن من الداخل، واستبدلت الدولتان المركزيتان بميليشيات متحاربة على نحو شامل أو جزئي، يتلقى بعضها دعما من قوى أجنبية، ويرفع بعضها أعلام “القاعدة” أو “داعش”./2/
1/القوى السياسية والعسكرية المتصارعة
من خلال التثبت في الخارطة السياسية في ليبيا بعد انهيار نظام القذافي، نجد أن هناك ثنائية أو قطبية سياسية تهيمن على المشهد، تتشكل من التيار “الوطني الليبرالي” (الذي ما زال مفككا ويبحث عن هوية موحدة له) والتيار “الإسلامي”(الذي برغم تناقضاته فانه الأقوى والأكثر تماسكا وتنظما)، فهما يشكلان أبرز القوى السياسية المتنافسة.
لكن، في الواقع نجد أنهما مجرد واجهة سياسية وإعلامية، وأن السلطة الفعلية أو المتحكمة على الأرض، هي بيد الميليشيات المسلحة، حيث نجد أن لكل تشكيلة سياسية ظهير “ميليشياوي” مسلح وكذلك سند أو عمق قبلي، يستمد منه الحماية والشرعية.
بعيدا عن الخوض في التفاصيل، نورد هنا عرض للعناصر المؤثرة، في المشهد السياسي اليوم في ليبيا، بكل تركيبتها وتناقضاتها.
تميز الحقل السياسي الليبي، سواء بعد انتخابات “المؤتمر الوطني العام” أو المجلس النيابي في جوان 2014، بحالة من التشرذم وعدم الاستقرار، ترجمت عبر تشكيل أكثر من حكومة، واللجوء بعد كل فترة إلى تغيير رئيس الحكومة.
كما أن تنظيم استحقاقات انتخابية، المعبرة عن وجود إرادة في بناء نظام سياسي مدني وديمقراطي، لم تحول دون توقف العنف، بل على العكس تصاعدت وتيرته، وهو ما يكشف على أن السلطة الحقيقية بيد الميليشيات المسلحة. فضلا عن تفشي حالة الانقسام السياسي، سواء في العاصمة طرابلس أو في الأقاليم خاصة الشرق، ظاهرة أخذت أبعادا خطيرة وأصبحت تهدد الوحدة الترابية للمجتمع والدولة، سواء عبر احياء النزعة الانفصالية، من خلال بروز مطامح لفرض نظام “الفدرلة”، التي تكرست أكثر، بعد بعث الجنرال خليفة حفتر لعملية “الكرامة” (وهي عبارة عن قوة عسكرية ) التي أعتبرت توجه نحو تكريس انفصال الشرق الليبي عن غربه (طرابلس).
منذ قيام “عملية الكرامة” بقيادة حفتر في بنغازي –شرق ليبيا -، انقسمت عمليا البلاد بين شرق وغرب، وأصبحت كل مؤسسة في ليبيا مؤسستين: حكومتان، واحدة يعترف بها المجتمع الدولي في الشرق، وأخرى مناوئة لها تدير العاصمة في الغرب، شركتان للنفط، قوتان عسكريتان تقول كل منهما إنها تمثل الجيش، وأيضا وكالتان رسميتان للأنباء.
وتتهم الحكومة المعترف بها السلطات الحاكمة في العاصمة بالانقلاب على الشرعية بعد طردها من طرابلس إثر مواجهات دامية، بينما تقول الحكومة الموازية إن السلطة المناوئة لها انقلبت على مبادئ الثورة، وسط حرب إعلامية شرسة تدور بين الجانبين.
وتخوض قوات موالية للطرفين مواجهات دامية يومية عند أطراف المناطق الخاضعة لسيطرة كل منهما: تحالف «فجر ليبيا» الذي يسيطر على العاصمة ويضم مجموعات إسلامية، ويقول إنه يتبع رئاسة أركان الجيش، و «الجيش الوطني» وهو عبارة عن قوات يقودها الفريق أول خليفة حفتر المناهض للإسلاميين، وتتبعه رئاسة أركان موازية تعمل تحت راية «عملية الكرامة».
وقد اعتبرت السلطات الانتقالية في طرابلس الحملة التي شنها حفتر “خروجا عن شرعية الدولة وانقلابا عليها”، بحسب بيان للمؤتمر الوطني العام (مقره العاصمة طرابلس). ولكن حفتر رفض هذه الاتهامات، مؤكدا في بيان له على أن “عمليتنا ليست انقلابا ولا سعيا الى السلطة ولا تعطيلاً للمسار الديمقراطي”، وأن هدفها هو اجتثاث الإرهاب” من ليبيا وأنها جاءت “استجابا لنداء الشعب”..
على أنه ومثلما سبق وأن ذكرنا فان الخارطة الحزبية والسياسية الليبية تهيمن عليها حالة القطبية بين التيارين الرئيسيين في البلاد، وهما التيار الليبرالي والإسلامي.
أ/الحركات الليبرالية الوطنية
يتبلور التيار الليبرالي، من خلال “حزب التحالف الوطني الديمقراطي”، الذي يضم في صفوفه شخصيات بارزة يتقدمها الدكتور محمود جبريل (المنتمي لأكبر قبيلة ليبية وهي قبيلة ورفلة، إذ يتمتع بين أبنائها بشعبية كبيرة) ، والدبلوماسي والوزير السابق عبد الرحمن شلقم بالإضافة إلى شخصيات بارزة أخرى منها التي سبق لها وأن اشتغلت مع نظام القذافي. وقد استطاع هذا التحالف الوطني الليبرالي، الفوز بـ 39 مقعداً في انتخابات 2012.
ويتهم هذا التيار بكونه يخطط “لإسقاط المؤتمر الوطني العام دون تقديم بدائل سياسية أخرى، بالإضافة إلى رغبته في إطالة عمر المرحلة الانتقالية، ليتمكن من إلغاء قانون العزل السياسي”.
وقد حرص تحالف القوى الوطنية والليبرالية على إجراء تعديل مهم على برنامجه السياسي وخاصة خطابه الانتخابي الذي لم يختلف كثيرا عن الخطابات التي استخدمتها الأحزاب الإسلامية، حيث أكدت خطابات التحالف على الهوية العربية الإسلامية لليبيين، وأنه لن يتم المساس بها، وأن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، ولن يكون هناك بديل عنها، وهي نقطة ساهمت بدرجة كبيرة في طمأنة الشارع الليبي المحافظ، على الرغم من أنه خطاب غير معهود من الليبراليين في الدول العربية.
ب/التيار الإسلامي
الإسلاميون: مثلما يعرفهم الباحث الليبي، السنوسي البسيكري “هم شريحة واسعة بعضهم تبلور في حزب والبعض في جماعة والبعض في تيار، وانقسامهم التقليدي هو: الإخوان، السلفية، الجهاديون، أنصار الشريعة كما هي الحال في الكثير من الدول العربية”.
يتشكل هذا التيار من موزاييك من الأحزاب والجماعات منها إخوان ليبيا، ممثلا في حزب العدالة والبناء، الذي فاز ب 17 مقعدا في المؤتمر الوطني، وهو يعد أهم أحزاب الإسلام السياسي في ليبيا، الذي يعتبر الذراع السياسي لتنظيم الإخوان المسلمين داخل ليبيا، على أن قيادة هذا الحزب ترفض هذا التصنيف،وتعتبر أن حزبهم حزبا وطنيا ومدنيا ذو مرجعية إسلامية.
أكد القيادي في حزب العدالة والبناء محمد صالح الشلماني، في حوار مع” DWعربية”، على هوية الحزب قائلا: “نحن نختلف عن حزب النهضة التونسي وحزب الحرية والعدالة في مصر. نحن في ليبيا قررنا أن نطلق مبادرة لحزب سياسي مدني لا علاقة له بالحركة الدينية الدعوية على غرار الكثير من الأحزاب الإسلامية العربية الأخرى”../3/
توجه إلى حزب العدالة والبناء، اتهامات باستخدام السلاح كوسيلة لبسط سلطته، وأنه يخطط للهيمنة و “التمكين” على غرار كل التنظيمات الاخوانية، من ذلك انه يتهم بالانقلاب على نتائج الانتخابات(جوان2014)، بعد ضعف النتائج التي تحصل عليها التيار الإسلامي عموما. كما أن المتابعين يرون أن هذا الحزب، وكل الجماعات الإسلامية لا يمتلكون رؤية وبرنامج لإدارة البلاد، وأن مصلحتهم في استمرار الوضع كما هو عليه، من شيوع لمظاهر عدم الاستقرار، وغياب سلطة مركزية قوية تحتكر العنف الشرعي، وإدارة البلاد ومواردها وثرواتها.
في هذا السياق يرى المحلل السياسي الليبي إسلام الحاجي في حوار لـموقع DWأن الإسلام السياسي لا يريد دولة قانون ومؤسسات، ومن ثمة فحزب العدالة والبناء “مطالب” بمراجعة خياراته والتنازل من أجل مصلحة البلاد وقيام الدولة. ويوضح الأخير أن “الجماعات الإسلامية المسلحة التي تعد الطرف الغالب في ليبيا لا تريد بناء مؤسسة جيش وطني وشرطة ليبية، لأن خطوة كهذه من شأنها أن تقلص من سلطة الأحزاب في ظل غياب الأجهزة الأمنية وهو ما سيفتح أمامها مجالا أكبر للسيطرة على البلاد”.. /4/
إلى جانب حركة الإخوان، ممثلة في حزب العدالة والبناء، تنشط في ليبيا جماعات دينية أخري عديدة منها التيارات السلفية المتشددة، مثل الجماعة الليبية المقاتلة وأنصار الشريعة فضلا عن الدور الكبير للمفتي الصادق الغرياني.
ت/القبيلة
على خلاف بقية بلدان المغرب العربي، خاصة تونس، التي عرفت أشكال متفاوتة في التحديث،خاصة في بعده الاجتماعي والسياسي، نلاحظ استمرار تأثير القبيلة في ليبيا، حتى بعد تأسيس الدولة والى الوقت الحاضر. “وحينما نتحدث عن القبيلة كوحدة للتنظيم الاجتماعي، فإننا نقصد جماعة تربط أعضاءها صلات الدم والقرابة، ونمط الإنتاج والتوزيع والاستهلاك الجماعي، وأسلوب المعيشة، والقيم ومعايير السلوك المشتركة، وهيكل السلطة الداخلية. وبهذا المعنى، فان هوية الفرد وولاءه الأول يكونان لهذه الجماعة”./5/
ولعل تواصل الحضور القوي للقبيلة، في المشهد السياسي الليبي، بما في ذلك خلال فترة حكم القذافي، يجعل البعض يذهب حد القول بان ليبيا لم تشهد حقيقة، قيام “دولة”بالمعنى الحقيقي لمصطلح “الدولة”. وبهذا فان وجود عصائب وعشائر متعددة يضعف مكانة السلطة مركزية، هذا ما ينطبق على المثال الليبي، وهو ما سبق وأن ذهب إليه بن خلدون، حينما ذكر “والبربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تحصى، وكلهم بادية وأهل عصائب وعشائر. وكلما هلكت قبيلة عادت الاخرى مكانها والى دينها من الخلاف والردة، فطال أمر العرب في تمهيد الدولة بوطن افريقية والمغرب (…) وبعكس هذا أيضا الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها، ويكون سلطانها وازعا لقلة الهرج والانتقاض، ولا تحتاج الدولة فيها الى كثير من العصبية، كما هو الشأن في مصر (…) اذ هي خلو من القبائل والعصبيات (…) فملك مصر في غاية الدعة والرسوخ لقلة الخوارج وأهل العصائب، انما هو سلطان ورعية”./6/
بعد الثورة وسقوط نظام القذافي، لم ينحسر حضور القبائل في المشهد السياسي، بل سنلاحظ أن هذا الحضور سيزداد لدرجة “التغول”. حيث لم ينقطع ظهور القبائل في السياسة الليبية بعد ثورة فبراير، لكنه تزايد مع تعثر الفترة الانتقالية، وظهرت حالة من الصراع بين القبيلة والأحزاب حول الدور السياسي، وقد شكل انعقاد مؤتمر القبائل في مدينة الزنتان في 6 يوليو/تموز 2013 المرحلة الأساسية لطرح القبيلة فاعلاً سياسياً وبديلاً عن الأحزاب السياسية.
وكان التطور اللافت، في المؤتمرات القبلية، خاصة في الإقليم الجنوبي، ماثلاً في الانتقال من شعارات الحراك الوطني ، لطرح ثورة الفاتح حلاً للخروج من الأزمة، وهو الاتجاه العام للنقاش في مؤتمر القبائل والمدن الليبية (الجنوب) في 14 سبتمبر/أيلول 2015، واعتبر أن ثورة فبراير مؤامرة دولية، شارك فيها الإسلاميون، وخلص إلى أن استعادة الاستقرار تتطلب بناء الجيش بدون “المليشيات المتطرفة” ومحاكمة المشاركين في “فبراير”، ودمج القبائل في العمل المسلح تحت مظلة “الجيش الليبي”، وهي فكرة تم تطبيقها في بنغازي تحت مسمى “الصحوات”، لكنها لم تضفِ على “الجيش” قدرة في حسم المعارك في المنطقة الشرقية أو الغربية، وتظل نقطة محورية في تعميق الانقسام والثأر الاجتماعي. وقد تلاقى مؤتمر قبائل الجنوب مع خطاب “الحركة الوطنية الشعبية الليبية” على تطابق مواقفها مع اجتماع القبائل، وكان أكثر تحديداً في تعريف الخصوم السياسيين، وحددهم في الحركات الإسلامية.
كما انعقد ملتقى الوفاق الوطني، في مصراتة (15 أكتوبر/تشرين أول 2015)، بنية تكوين ظهير اجتماعي للاتفاق السياسي، فمن جهة عمل على حشد الكيانات القبلية. ومن جهة أخرى، تضمن البيان الختامي سياسات ركزت على تفعيل العدالة الانتقالية وحرمة الدماء ووقف الحرب الإعلامية، وهو اتجاه يمكن أن يستوعب جزءاً من التوترات والخلافات حول التسوية السلمية والحوار الوطني.
غير أنه من المفيد الإشارة إلى أن مجالس قبلية عديدة تعبر عن كيانات جهوية، أو جماعات سكانية، يتنبى كل منها رؤية مختلفة؛ فهناك المجالس العليا لجماعات الأمازيغ (التبو) والطوارق، بالإضافة إلى مجالس القبائل والمجالس البلدية، وتمثل هذه التكوينات الأشكال التقليدية للعمل السياسي، لكنها لم تتصدّى لمعضلات بناء الدولة، واقتصر دورها على عقد مصالحات اجتماعية، على الرغم من مطالبتها بإعادة توزيع السلطة والثروة.
ث/الكتائب والمليشيات المسلحة
تنتشر في ليبيا اليوم، أعداد لا تحصى –دون مبالغة – من المليشيات المسلحة، التي لها أجندات سياسية يختلط فيها المحلي مع الإقليمي والدولي. كما إن الكثير منها يعود إلى فترة الصراع مع نظام القذافي، وقد استمرت في حمل السلاح حتى بعد سقوط القذافي ونظامه.
توجد بليبيا العديد من الميليشيات، لعل من أبرزها وأكثرها تأثيرا، نذكر كتائب درع ليبيا وتحالف 17 فبراير والنسور والصواعق والقعقاق وأنصار الشريعة بالإضافة إلى كتائب أخرى يصعب فعلا إحصاؤها.
بالعودة إلى الأرقام المعلنة، من قبل قيادات سياسية وعسكرية، فان عدد عناصر الميليشيات المسلحة يفوق ال 200 ألف، وقد كان عددهم خلال الحرب التي شهدتها البلاد في بداية الثورة على نظام القذافي يقدر بنحو 30 ألف مسلح. وبالنظر لامتلاكها المال والقدرات العسكرية والبشرية والدم السياسي، وكذلك بالنظر لانتشارها على مختلف التراب الليبي وارتباطها بالنسيج القبلي، فإنها أصبحت تتحكم في مصير البلاد، ولا يمكن تصور وجود تسوية في المستقبل، بدون تسوية هذا الملف المعقد، الذي يحول دون التوصل إلى وجود دولة قوية، تحتكر “العنف الشرعي” (وفق الفهم الذي دعا اليه عالم الاجتماع ماكس فيبر)، وتبسط نفوذها الترابي والعسكري، على كل المجال الترابي الليبي.
يعلق الدكتور عبد اللطيف أحميده، أستاذ ورئيس قسم العلاقات الدولية، في جامعة “نيوانجلاند”، في مقال له نشره على موقع “ليبيا المستقبل”، بأن من نتائج الثورة ضد النظام السابق، بروز مدن ومناطق تملك الأسلحة الثقيلة، والدعم المالي، مما أعطاها قوة غير مسبوقة ومفاجئة، أهمها مدن مثل مصراته والزنتان والزاوية وجماعات التبو المسلحة في الجنوب الليبي، والجماعات الإسلامية في مدن درنة وبنغازي واجدابيا والمنطقة الوسطى ( سرت).
فحسب أحميدة، فان هذه المدن سيطرت عليها جماعات وكتائب “امتلكت وورثت الأسلحة مثل الدبابات والصواريخ والمدرعات حصلت عليها من مخازن النظام السابق وأيضا من المساعدات الخارجية”. بل إن هناك بعض المدن قد أصبحت لها سجون وبوابات تفتيش وأيضا قنصليات عربية وأجنبية مثل مدينة مصراته الكبيرة ومدينة الزنتان الصغيرة. وبسبب هذه النتائج غير المسبوقة لعبت هاتان المدينتان دورا كبيرا ولا زالتا في الصراع السياسي الآن”. /7/
يشير الباحث الليبي، السنوسي البسيكري، في مداخلة له بعنوان ” ليبيا: اللاعبون المحوريون واستراتيجياتهم”، قدمها في ندوة نظمها “مركز الجزيرة للدراسات”، اهتمت برصد محور “الثورة الليبية بعد ثلاث سنوات.. تحديات في طريق المستقبل”، الى “أن مكون القوى العسكرية يعتبر أحد أبرز اللاعبين الآن في ليبيا وأكثرهم حضورًا على الأرض، فهنالك كتائب، وميليشيات، وثوار، والجميع يحمل السلاح ويتصرف خارج القانون. ولهذا اللاعب دور حاسم في رسم المشهد السياسي الليبي في الوقت الراهن، ومن نافلة القول: إن قانون “العزل السياسي” مثلاً كان نتيجة ضغط هذا المكون على الحكومة الانتقالية، فبسبب قوتهم وضغطهم لتحقيق هذا المطلب تمت الاستجابة له. وداخل هذا المكون توجد شرائح مقطعية متداخلة منها المستلقون ومنها الإسلاميون. وتذهب بعض الإحصاءات إلى أنه يوجد أكثر من 10 قوى مسلحة في طرابلس وحدها ممن لا ينتمون لجهة معينة، لكن ما إن تقع مواجهة بين جهتين أو صدام بين طرفين إلا وتجمّع هؤلاء المسلحون غير المصنفين ويغذّون هذا الطرف أو ذاك مما يولّد مزيدًا من التوتر، ويكرّس دور هذا اللاعب في الخيار الأمني الليبي. إن هؤلاء المسلحين أداة استقرار وأداة توتير في نفس الوقت؛ فمسلحو مصراتة مثلاً فرضوا حالة من الأمن في الجنوب الليبي لكن ظهور ما بات يُعرف بكتيبة القعقاع وكتيبة الصواعق وتهديدهم أعضاء المجلس الوطني يجعل دور هذا اللاعب في منتهى الخطورة؛ فهذا اللاعب عبارة عن قوة عسكرية على الأرض تقوم برسم المشهد السياسي”./8/
ج/ تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”
منذ أول ظهور له في درنة (1300 كلم شرق طرابلس)، في الشرق الشرق الليبي، في 19 نوفمبر 2014، شاعت الأخبار عن تحول هذه المدينة الساحلية لامارة تابعة للتنظيم. منذ ذلك التاريخ، لم يفتأ “داعش” ينتشر كالنار في الهشيم، في ليبيا المقسمة بين حكومتين وبرلمانين، والتي تعيش في فوضى دموية غير مسبوقة، برزت بوضوح بعد أن احتل المتطرفون العاصمة طرابلس وبنغازي ثاني أكبر مدن البلاد، ما نجم عنه قتل وجرح وتشريد الآلاف. وتقدر منظمات دولية عدد النازحين بنصف مليون شخص تقريبا، فيما تفيد بانتشار أكثر من 25 مليون قطعة سلاح في ليبيا.
في خضم هذه الفوضى، نشأ “داعش”، وترعرع بسرعة في أحضان تيارات أصولية، استولت على مفاصل الدولة الليبية، وهي جماعات لا ترى خلافا جوهريا مع التنظيم، عكس الحكومة المؤقتة المعترف بها دوليا في الشرق الليبي. يذكر أن الحكومة الليبية المؤقتة حذرت المجتمع الدولي في مناسبات عديدة من الخطر الذي يشكله “داعش” في ليبيا، على أمن المنطقة والعالم، ودعت إلى حملة عسكرية دولية لمواجهته، قبل أن يمتد إلى جنوب البلاد الذي أصبح مرتعا للإرهابيين في المنطقة.
في هذا السياق حذر المبعوث الأممي لليبيا، مارتن كوبلر، من استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، على المرافق النفطية في ليبيا، لاسيما بعد تنامي أعداد عناصره القادمين من سورية والعراق.
ويؤكد كوبلر على أن “الضغط كلما زاد على داعش في سورية، زاد عددهم في ليبيا”، وأن التنظيم يحاول الانتشار في تونس البلد المجاور لليبيا.
ويوضح كوبلر أن استراتيجية داعش “واضحة جدا” وتتمثل بالتوجه إلى الجنوب، و”تشكيل فريق مع الجماعات الإرهابية الموجودة في الدول الجنوبية المجاورة لليبيا، وهي النيجر وتشاد، للاستيلاء على النفط”.
وأشار كوبلر الى أن “القتال ضد “داعش” في الشرق شهد تقدما، لكن لا يوجد بعد جيش ليبي موحد، هناك الجيش الوطني الليبي تحت قيادة الجنرال خليفة حفتر، لكنه لا يمثل جيشاً لكل ليبيا”.
ودعا كوبلر الليبيين إلى “البحث عن سبيل لتشكيل جيش موحد، بمشاركة القوات في الشرق والغرب”. /9/
يعطي “داعش” أهمية كبرى لوجوده في ليبيا، التي يعتبرها بمثابة “البوابة الإستراتيجية”. فقد نشر تنظيم “داعش” على أحد مواقعه تقريراً مفصلاً بعنوان “ليبيا البوابة الإستراتيجية للدولة الإسلامية”، شرح من خلاله التنظيم أسباب اهتمامه بليبيا، وأبرز ميزاتها التي تجعل منها نقطة انطلاق هامة نحو تحقيق ما يسمى بـ”دولة الخلافة”. و يشير التقرير، إلى أن ليبيا تتمتع بـ”موقع استراتيجي يمكنها من تخفيف الضغط على مناطق دولة الخلافة في العراق والشام، حيث تتميز ليبيا بمساحة كبيرة جداً وبصحراء شاسعة لا يمكن مراقبتها، وبجبال محصنة تجعل الطائرات عديمة الجدوى”.
وتابع التقرير قائلا “يكفي أن نقول أن ليبيا تطل على بحر وصحراء وجبال، وعلى 6 دول (مصر، السودان، تشاد، النيجر، الجزائر، تونس”. كما أكد أن «ليبيا ذات ساحل طويل ومطل على دول الجنوب الأوروبي، والتي يمكن الوصول لها بسهولة عن طريق الزوارق البسيطة، ولعلنا ننوه إلى كثرة الرحلات لما يسمى (الهجرة غير الشرعية) في هذا الساحل، وبأعداد مهولة، فيما تقدر بحوالي 500 شخص يومياً على أقل تقدير، ونسبة كبيرة منهم يستطيعون تجاوز النقاط البحرية الأمنية والوصول لداخل المدن، وإذا تم استغلال هذه الجزئية وتطويرها استراتيجياً بالشكل المطلوب، فسيقلب حال دويلات الجنوب الأوروبي للجحيم وإذا توفرت الإمكانيات، يمكن إقفال الخط الملاحي واستهداف سفنهم وناقلاتهم» /10/
ثانيا: تحديات إقامة الدولة الديمقراطية
يبدوا المشهد العام في ليبيا، وبرغم الجهود السياسية في الداخل والخارج، يتجه نحو تعقيد أكثر، وذلك برغم انتقال حكومة “التوافق الوطني” المدعومة من المجتمع الدولي، بقيادة فايز السراج، إلى طرابلس، وتسلمها بعض المقرات الرسمية، مع ذلك نلاحظ أن الوضع تغلب عليه مظاهر التشضى والانقسام، ما يجعله أقرب إلى الانزلاق نحو الفوضى، منه للاستقرار، بسبب وجود عدة تحديات تجعل من مهمة حكومة “التوافق” في وضع يدها على كامل التراب الليبي عملية صعبة، إن لم تكن مستحيلة. وهي ستصبح اكثر تعقيدا لو أعطت هذه الحكومة “الشرعية” لتدخل عسكري، وان كان تحت مبرر ضرب التنظيمات الجهادية، خاصة “داعش” الذي تمدد بسرعة. هذا فضلا عن تواصل الانقسام السياسي و القبلي والأمني بين “الشرق” و “الغرب”، وهيمنة الميليشيات وتحكمها في المكونات السياسية.
على الأرض، ومنذ سقوط حكم القذافي والى الآن، نشاهد بأن الأوضاع لم تتغير في اتجاه سيطرة الدولة على مختلف مجالات الحياة، خاصة في بعدها الأمني والمتمثل في “احتكار” ما نطلق عليه ب “العنف الشرعي”، اذ أن سلطة الدولة ما تزال غائبة، وهو وضع ينسحب على كافة مناطق ليبيا وعلى المنشات الحيوية للبلاد التي ما تزال تحت تصرف وادرة الميليشيات. كل هذا وسط دعوات جدية للانفصال عن السلطة المركزية. ولعل معركة السيطرة على مطار طرابلس الدولي التي تمت بعد الاعلان عن نتائج انتخابات جوان 2014، كشفت بوضوح عما يجري عي الأرض وأعطت فكرة عن تداعياته في المستقبل.
هذه المعركة التي انطلقت خلال النصف الثاني من شهر يوليو 2014 في طرابلس بين ميليشيات دينية متشددة وكتائب الزنتان التي تسير المطار منذ قيام الثورة. وأشارت التقارير الى سقوط 47 قتيلا في المعركة المستمرة للسيطرة على مطار طرابلس، إضافة إلى تدمير 21 طائرة بقيمة وصلت إلى نحو ملياري دولار.
ويرى المراقبون للوضع الليبي أن معركة المطار، وهي الاشتباكات الأعنف والأكثر دموية منذ سقوط نظام القذافي، “تأتي في خضم حالة الاستقطاب الحادة التي باتت تعانيها ليبيا، سيما مع تزايد التدهور الأمني وارتفاع معدلات الاغتيال والخطف والاستهداف، وغموض مصير عملية الكرامة العسكرية التي يقودها اللواء المتقاعد خليفة حفتر في بنغازي التي تهدف إلى تخليص ليبيا من الجماعات الإسلامية.
في هذا السياق يؤكد الباحث، مصطفى أبوشاقور، على أن التحدي الأمني يبقي هو العائق الرئيسي أمام كل تسوية سياسية، حيث ” يرى أن الشأن الأمني أحد أبرز التحديات التي يراها ظاهرة للعيان؛ ذلك أن هناك عدمَ وجود مؤسسات أمنية نظرًا لانسحاب الشرطة الليبية من المشهد العام لكونها جزءًا من النظام السابق. لقد رفض شباب الثورة بقاء جميع عناصر الأمن والشرطة في وظائفهم نظرًا لانعدام ثقة الشباب في هؤلاء، وما زال انعدام الثقة مستمرًا بين مؤسستي الشرطة والجيش وبين الثوار؛ فالثوار لا يريدونهم ولهذا تعطلت المؤسسة الأمنية، وفي غيابها تكرس انعدام الأمن وغابت الدولة وهو أمر يضفي بظلاله على المستقبل الليبي”.
من خلال رصد الوضع على الأرض –وهو ما تطرقنا له في الفصل الأول من هذه الورقة – نجد أن التحديات العديدة التي تواجه استعادة حضور الدولة من خلال تسوية سياسية تكون محل قبول كافة الفاعلين السياسيين، ليست في المتناول في المدى القريب. بل عكس ذلك نجد أن الوضع العام أقرب إلى الانفجار منه إلى الاستقرار والتعايش والتوافق. وهي سيمات المشهد الليبي منذ ثورة 17 فبراير، برغم وجود عملية سياسية جارية منذ سقوط نظام معمر القذافي. تمثلت أبرز عناوينها في تنظيم استحقاقات انتخابية في مناسبتين. لكنها ترافقت مع تضارب مصالح واستراتيجيات الفاعلين السياسيين، مرده الصراع الدائر بينها حول التفرد ب “الغنيمة” –الثروة البترولية – والتنازع حول “النفوذ” و “شرعية” من يحكم ليبيا وخلافة النظام السابق. ما وفر البيئة المناسبة لتنامي المخاطر الأمنية ، التي استفادت من انتشار غير مسبوق للأسلحة والعتاد الحربي. الأمر الذي ساهم في تصاعد أنشطة الجماعات الدينية المتشددة، التي من الممكن أن تحول الأراضي الليبية إلى “مركز” أو “منصة” حاضنة لأنشطة الإرهاب، على غرار ما حصل في الصومال وأفغانستان وسوريا والعراق. خصوصا وأن هذه الجماعات لا تخفى ارتباطها بتنظيمات دولية، في إطار ما أصبح يعرف ب “عولمة الإرهاب” أو “الإرهاب العابر للحدود”. فهي جماعات تجد دائما في حالة الفوضى، وغياب سلطة الدولة المركزية على أقاليمها ومؤسساتها، مناخا مناسبا للتوطن ثم التوسع لاحقا.
يبرز من خلال العناصر المكونة للمشهد الليبي الحالي، أن العوائق والتحديات التي تقف دون تواصل واستمرار مسار الانتقال السياسي السلمي في هي الطاغية. وبالتالي ترجيح سيناريو الدفع نحو المزيد من “الفوضى”، وفي المحصلة مزيد تفكيك الدولة الليبية المفككة أصلا. كما لا يستبعد أن يمتد خطر الوضع الليبي الراهن، ليرمي بضلاله على دول شمال إفريقيا، تحديدا تونس ومصر والجزائر. في هذا السياق واستباقا لتمدد الأزمة الليبية في الإقليم، احتضنت تونس في 15 يوليو 2015 “مؤتمر دول الجوار الليبي”، دعا في بيانه الختامي الى التأكيد “على ضرورة احترام وحدة ليبيا وسيادتها وسلامتها الترابية ووقف كامل العمليات العسكرية”، إضافة الى دعوة “كافة الأطراف السياسية في ليبيا إلى حل خلافاتها عبر الحوار وانتهاج مسار توافقي “..
كما نص بيان تونس على “ضرورة مساهمة دول جوار ليبيا في الاجتماعات والمؤتمرات التي تتناول الشأن الليبي ودعم كافة الجهود الهادفة الى توفير أفضل الظروف لعقد مؤتمر الحوار الوطني الليبي ومساندة المبادرات العربية والإفريقية”.. وفي محاولة لوضع خطة عملية للمساهمة في حل الأزمة الليبية أقر اجتماع تونس “تشكيل فريقي عمل برئاسة وزير الشؤون الخارجية التونسي بالتعاون مع المبعوثين الخاصين لجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي إلى ليبيا، أحدهما أمني على مستوى الخبراء الأمنيين تتولى الجزائر تنسيق أشغاله، والثاني سياسي على مستوى كبار الموظفين تتولاه مصر”.
1/التواصل والقطيعة مع ارث نظام القذافي
عجزت النخبة السياسية في ليبيا، بعد سقوط “جماهيرية القذافي”، عن إيجاد أرضية وطنية مشتركة للحوار والتوافق الوطني، تؤسس لنظام سياسي جديد، يعيد بناء مؤسسات الدولة وعلاقتها بالمجتمع، وذلك عبر تجاوز هنات الممارسة السياسية السابقة للثورة، وحالة “الانفلات” بعد 17 فبراير، التي زادت في إضعاف الدولة لصالح إما عودة بني تقليدية مثل القبيلة، أو صعود النزعات المناطقية، إضافة إلى تخطيط التيار الإسلامي –بكل مكوناته وتلويناته خاصة الاخوانية والسلفية- إلى الهيمنة على ليبيا الجديدة، من خلال التحالف مع أطراف خارجية سعت إلى “استثمار” ورقة “الإخوان” حتى قبل سقوط حكم القذافي.
برز ذلك، من خلال مراهنة البعض، على بديل “إسلامي/اخواني” في ليبيا، وقد قوبل هذا “البديل” بنكسة وردت مقدماتها من خلال العمليات الجارية على الميدان، لعل أبرزها حركة “الكرامة” بقيادة الجنرال المتقاعد خليفة حفتر. أما في المستوى السياسي فان كل من التيار “المدني” و “اليبرالي” مثل حجرة أمام تقدم مشروع “أخونة” ليبيا. كما كان لسقوط حكم الإخوان في مصر، وإجبار “النهضة” في تونس على ترك الحكم، وقع الصدمة على الحركة الإسلامية في ليبيا، فتهاوت وتراجع تأثيرها حيث تأكد أيضا أنها قوبلت سوسيولوجيا برفض مجتمعي كبير، بعد افتضاح نواياها في استهداف تغيير النمط المجتمعي، وكذلك عجزها عن خدمة الناس بدل وعظهم، وهو نفس ما حصل في تونس مثلا، التي تراجع فيها الحضور الشعبي، لتيار الإسلام السياسي. /11/
على خلاف ما حصل في كل من تونس ومصر، حيث كانت الثورات هناك سلمية، نظرا لوجود حد أدنى لمقومات حياة سياسية ولتجربة حزبية وحيوية للمجتمع المدني وخاصة الجمعيات الحقوقية، إضافة إلى تواتر الحركات الاحتجاجية المطالبة بالإصلاح وخاصة السياسي قبل الثورة. ومن هنا فان افتقاد المجتمع الليبي ل “بنية تحتية” تتمثل في أحزاب ومجتمع مدني وحركات احتجاج منظمة. إلى جانب الطبيعة “الدموية” للنظام السياسي زمن القذافي، التي تجلت من خلال تعاطيه مع بداية الانتفاضة في مدينة بنغازي – مهد الثورة-، اذ اختار النظام الحل الأمني والقمعي، وبالتالي لم يترك أي خيار أخر أمام “الثوار” الذين أجبروا على الرد عليه بنفس خياره أي المقاومة المسلحة، وهو ما جعل الثورة الليبية “دموية” بالمقارنة مع كل من تونس ومصر.
وسنرى أن هذا “الخيار” المسلح، استمر بل اشتد عوده بعد سقوط نظام القذافي، وأصبح هو القاعدة لحل الخلافات بين الفرقاء، برغم وجود واجهة لحياة سياسية، تمثلت أساسا في تنظيم استحقاقات انتخابية. وهنا وفي ملاحظة مهمة، نجد أن الفاعلين السياسيين الجدد في ليبيا أعادوا إنتاج نفس الثقافة السياسية لنظام القذافي، القائمة على الإلغاء والاستئصال للخصوم، عبر العنف والإقصاء والانتصار للحل عبر قوة السلاح لا قوة الحجة. وهو ما يكشف عن وجود أزمة هيكلية / بنيوية لدي هذه النخب، التي استمرت في تبنى نفس الإرث السياسي السابق لثورة 17 فبراير، لتكشف عن عجزها في بناء ثقافة سياسية جديدة، وهو وضع زاد في تعقيده التدخل الخارجي، والصراع حول الثروات التي تزخر بها البلاد.
كما لم تقطع القوى الجديدة التي أفرزتها الثورة مع الفساد الذي شمل كل مظاهر الحياة، وكذلك غياب العدالة في توزيع الثروات، وحالة التخلف الذي تعيش فيها ليبيا رغم ثرائها بالنفط، فضلا عن تواصل ثقافة “القمع الأمني” عبر المليشيات التي عوضت اللجان الثورية الذراع الذي حكم به القذافي طيلة أربعة عقود.
في كتابه “ليبيا..الثورة وتحديات بناء الدولة”، يتطرق الباحث الليبي، المختص في العلوم السياسية، يوسف محمد جمعة الصواني، إلى أبرز التحديات التي تواجه إقامة الدولة الديمقراطية بعد سقوط نظام القذافي. مشيرا إلى “أن ليبيا تشترك مع الحالات العالمية المشابهة في ما يتصل بمرحلة ما بعد الصراعات أو الحروب الأهلية، وكيف تلقى هذه بظلالها الكثيفة على أي انتقال ديمقراطي، ولكن ليبيا تتوفر، أيضا، على مكونات وتحديات خاصة بها”./12/
ويعدد الصواني التحديات التي تواجه الانتقال الديمقراطي، في ما ذهب إليه محمد الفيتوري، في “الوطن الليبية” (عدد 19-12-2011) والمتمثلة في: “الثقافة السياسية، وفي طبيعة الاقتصاد الوطني، بينما ترتبط أخرى بما ترتب عن حكم القذافي، والظروف والأوضاع التي نجمت عن الإطاحة به. ومع أن التهديد الخارجي، أو التدخل الأجنبي، يبرز كأخطر تحد للسيادة الوطنية، ويهدد أي توازنات أو توافقات يمكن التوصل اليها بين الأطراف، وخاصة تلك المتعلقة بإعادة البناء وإعادة الاعتبار للدولة وهيبتها”. /13/
كما يشير الباحث، إلى ما سبق وان اشرنا إليه، من لجوء الفاعلين الجدد بعد الثورة إلى إعادة إنتاج بعض ممارسات النظام السابق للثورة، والمتمثلة بالخصوص في العنف الذي استعمل أيضا في إسقاط النظام. حيث ينبه الصواني إلى “أن من شأن إسقاط الدكتاتورية بثورة مسلحة في مواجهة الة القتل التي يستخدمها الدكتاتور الطاغية أن يجعل العنف ومؤسساته، وربما اللجوء إليه في مستويات مختلفة من الممارسة، أمرا قائما او محتملا في مرحلة لاحقة”. /14/.
وهنا يشير الباحث، إلى ضرورة الانتباه من مغبة السقوط في فخ إنتاج ممارسات الدكتاتورية السابقة. بالاستشهاد بجين شارب، من كتابه “المقاومة اللاعنفية: دراسة في النضال بوسائل اللاعنف”. حيث يقول فيها “الشعوب ومؤسسات المجتمع المدني تكون ضعيفة في ظل وجود أنظمة الحكم الدكتاتورية، وتكون الحكومة في المقابل قوية جدا، فإذا لم يحدث تغيير في موازين القوى هذه، فان الحكام الجدد يستطيعون ان أرادوا أن يكونوا حكاما دكتاتوريين كأسلافهم”. /15/.
ثالثا: سيناريوهات المشهد الليبي
إن تصور أو استشراف ما ستؤول إليه الأوضاع في ليبيا، لا يمكن أن يتجاوز في مداه من سنة إلى ثلاثة سنوات، وذلك بالنظر إلى أن الوضع في الداخل الليبي، وأيضا في الإقليم متحرك وبشدة. فمحاولة قراءة مستقبل ليبيا، عبر وضع السيناريوهات المرجحة أكثر من غيرها لتطور الأوضاع، عملية صعبة ومعقدة تعقد الوضع على الأرض (مثلما بينا ذلك في الجزء الأول من هذه الورقة). فضلا عن التحديات (الجزء الثاني من الورقة) التي يتداخل فيها الحاضر المرتبط بطبيعة المرحلة الانتقالية، مع ارث ال42 سنة من حكم معمر القذافي، التي تبين لنا من خلال تفكيك وتحليل المشهد الليبي الراهن، كيف أنها استمرت حاضرة بقوة في مرحلة ما بعد الثورة، كما يتوقع استمرار هذا الإرث لسنوات أخري، لحين الانتهاء من بناء نظام سياسي جديد، يحدث قطيعة ابستيمولوجية وممارساتية مع الذي سبقه.
في البداية، نشير إلى أن التطلع لمستقبل ليبيا، يفترض الرؤية إليه أو تأطيره، ضمن الحراك الجاري في العالم العربي، بعد “إعصار” ثورات يناير 2011 ، التي يبرز من خلالها أن حال الأمة العربية عرف مرورا من “تغيير النظم الى تفكيك الدول”./16/. وأيضا وضعه في إطار ما يعرفه الإقليم، ونعني هنا منطقة الشرق الأوسط، التي تعد من أكثر المناطق في العالم توترا.
في هذا الإطار، من المهم عرض ما توصلت إليه، مراكز البحث الرئيسية في العالم، التي اهتمت برصد المسارات والتفاعلات الحالية والمقبلة في منطقة الشرق الأوسط، بوصفها المنطقة الأكثر اشتعالا في العالم، على اعتبار أن ما يجري فيها من تطورات يؤثر في العالم بأسره.
في تقرير له، اهتم المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة “برصد ومتابعة تحليلا وتنبؤات دوائر الفكر الإستراتيجية الغربية حول العالم ومنطقة الشرق الأوسط في عام 2016”. /17/. وقد تناول التقرير أربعة محاور، سنستعرض الجزء المخصص للازمة الليبية والذي تم التطرق إليه ضمن المحور المتصل “بكيف سيكون إقليم الشرق الوسط في عام 2016..أزمات الإقليم الرئيسية.. التنظيمات الإرهابية..التطورات الخاصة ببعض دول في المنطقة (ومنها ليبيا)”.
حول تداعيات الأزمة الليبية، تجمع مراكز البحوث الرئيسية في العالم على ما يلي /18/:
1/ يبدوا واضحا أن نشاط تنظيم “داعش” تمكن من إحكام سيطرته على المناطق الواقعة، حول سرت وعلى مناطق الساحل الليبي على البحر الأبيض المتوسط، هذا أدى إلى وجود إلحاح للقيام بجهد دولي لإنهاء الأزمة السياسية التي خلقت حالة من الفوضى في البلاد.
2/ رغم نجاح الأمم المتحدة في توقيع اتفاق تشكيل حكومة وحدة وطنية، بفضل ضغط الولايات المتحدة وايطاليا، ما زالت هناك قوي تعارض الاتفاق.
3/ ما زالت الفوضى هي الوضع السائد في ليبيا، فهناك غياب للقانون ومؤسسات تطبيقه، وليبيا أصبحت نقطة عبور رئيسية للاجئين والمهاجرين من الشرق الأوسط وإفريقيا الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا. كما أدى تدفق المقاتلين والأسلحة من ليبيا دون رادع، إلى اندلاع الصراعات في منطقة الساحل. وأصبحت منطقة فزان الفقيرة في الجنوب ملاذا للشبكات الإجرامية والجماعات المتطرفة. وعلى رأس كل هذا التدهور، هناك انهيار اقتصادي يلوح في الأفق ما لم يتم زيادة إنتاج النفط.
بالعودة إلى محاولة بناء “المثال الأنموذج” للسيناريوهات المستقبلية في ليبيا، فانه من الجدير التأكيد، على أنه لا يمكن في الواقع القفز على معطيات الواقع كما هي ماثلة على الأرض، ولا على “ارث القذافي”، الذي ما زال يتحكم بل يشكل “العقل السياسي” للفاعلين الرئيسيين في المشهد الليبي ما بعد الثورة. لعل هذا ما يفسر شيوع العنف والانقسام السياسي، الذي هيأ الأرضية المناسبة للانزلاق نحو التقاتل والحرب الأهلية.
كما أن حالة الفوضى ساعدت على توطين الجماعات الجهادية، التي أصبحت عنصرا معطلا للحل في البلاد. كما أعطت الضوء الأخضر لهيمنة المليشيات ولغة السلاح على التسوية والحوار السياسي، الشيء الذي يؤخر التوافق بين الفرقاء، إن لم يجعله مستحيلا، على الأقل في المدى الحالي والقريب، ليرتسم مشهد شديد التعقيد، خاصة بعد تصارع الأجندات الإقليمية والخارجية، التي وجدت المناخ مناسبا لمزيد تفكيك المفكك وتقسيم المقسم، برغم محاولة المجتمع الدولي السعي إلى “فرض” تسوية سياسية بالقوة، رغم إرادات الفاعلين السياسيين، ما يجعل حظوظها أقرب إلى الفشل، أو على الأقل ستكون عامل إضافي في استدامة الأزمة، على غرار ما حصل في تجارب سابقة، مثل العراق.
في ظل هذا المشهد الليبي المعقد والمفكك، ما هي سيناريوهات تطورات الوضع ؟
مما تقدم، يتضح أنه لا توجد أمام ليبيا خيارات وسيناريوهات كثيرة، فكل الوقائع الماثلة والتحديات المشاهدة، تشير الى أن تطور تفاعلات المشهد الليبي، يغلب عليها سيناريو وحيد، يرجح أن تسير الأوضاع نحو الانهيار التام والشامل، من خلال الانزلاق نحو حرب أهلية، تتحول معها ليبيا إلى دولة فاشلة، على غرار العراق وسوريا. وأن السيناريو الذي يرجح امكانية التوصل إلى “توافق وطني”، ينهي الانقسام السياسي والمناطقي، ويضع أسس بناء الدولة، والقطع مع ارث نظام القذافي، يبدوا بمثابة سراب وغير وارد التحقق، ومرد ذلك شدة تعقد الوضع والتحديات المتراكمة.
سيناريوهات محتملة
أ/سيناريو الانهيار الشامل
تشير كل العناصر الحالية، على أن سيناريو الانهيار الشامل، والمتمثل في الانزلاق نحو المزيد من التقاتل، والحرب الأهلية، هو الأقرب بل المتوقع في ليبيا، على المدي الحالي وخلال السنوات القليلة القادمة.
وهو سيناريو، يجد ما يبرره وبقوة في الواقع الماثل أمامنا، والذي نقدر بناءا على مواقف واتجاهات الفاعلين الرئيسيين، أنه مرشح للاستمرار. فليس هناك ما يشير في الأفق، إلى أن الأطراف المتصارعة في “الشرق” و “الغرب” مستعدة للتنازل والحوار والتوافق على كلمة سواء. فما يجمع بينهما من عداء يصل حد رغبة كل طرف في إلغاء الأخر، إضافة إلى تمترس كل طرف وراء “سند” أو “أجندة” خارجية، يجعل من مجرد الجلوس والتفاوض عملية صعبة. هذا ما يجعل الأوضاع الحالية، المتسمة بالانقسام والتفكك والصراع، التي تتغذي من مطالب الانفصال هي التي سوف تستمر. وفي استمرارها فسح مجال للفوضى، وبالتالي تواصل هيمنة الميليشيات والجماعات الجهادية، مثل “داعش” و “القاعدة” على الأرض.
من هنا فان المرجح جدا، على الأقل من سنة الى ثلاث سنوات، هو أن تفرض العناصر المتطرفة في الطرفين، أنصار فجر ليبيا وأنصار عملية الكرامة رؤيتهما، وبالتالي تستمر الفوضى والاحتراب، ويتم القضاء على ما تبقى من مؤسسات، تعكس وجود الدولة كالمصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط.
هذا السيناريو، سيشرع الأبواب أمام التدخل الدولي.، تحديدا الغربي، من أجل حماية مصالحه في ليبيا، في الثروة وأيضا في حماية أمنه القومي (جنوب أوروبا). وهنا نشير، إلى أن الخطاب الذي ساد بعد ما يسمي ب “ثورات الربيع العربي”، الذي تحدث عن ضرورة دعم العواصم الغربية، للانتقال الديمقراطي في ليبيا وغيرها من عواصم دول ثورات يناير 2011، قد تراجع نحو مركزيته الأوروبية، التي تجد مرجعيتها في المقاربة الاستشراقية، التي تري أن الشعوب العربية، غير جديرة بالحرية والديمقراطية. وبهذا عاد الغرب من جديد للتعامل مع ما يجري في ليبيا وغيرها كمسألة أمنية تهدد جنوب أوروبا.
تدعمت أولوية الأمني، في التعاطي مع ما يجري في المنطقة، بعد تفجيرات باريس الإرهابية (نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ووصفت الهجمات بأنها غير مسبوقة في فرنسا، وبأنها تمثل 11سبتمبر الفرنسية)، وبعدها بروكسال/بلجيكا. أحداث عجلت من خطى العالم الغربي، في البحث عن تسوية سريعة للأزمة الليبية، لا لأجل دعم الانتقال الديمقراطي، وإنما وضع هيكل سياسي “شرعي”، لضمان الاستقرار الذي لا يخل بأمن أوروبا، عبر تأمين الحدود، من أجل منع تمدد “داعش” في أوروبا، وإيقاف الهجرة السرية أو الغير شرعية، التي أصبحت تؤرق الأمن القومي للقارة العجوز.
في هذا السياق، تندرج التسوية الجارية في ليبيا، التي انطلقت من “الصخيرات” المغربية، وأفضت لميلاد حكومة “التوافق الوطني”، بقيادة فائز السراج. التي يتوقع أن ينحصر مجال نفوذها، في إعطاء “شرعية” لتدخل عسكري غربي في ليبيا، تحت عنوان الحرب على “داعش”، تدخل يخفي حقيقته والمتمثلة في حماية النفط الليبي لا المجتمع والدولة والانتقال الديمقراطي. وهو التدخل الذي سيزيد في تعقيد الأوضاع في الداخل الليبي، اذ يتوقع أن يوحد المجتمع الليبي، خاصة القبائل، التي تنظر لكل تدخل خارجي، على انه “استعمار جديد”، وهو ما سيصرف نظرها عن الجماعات “الجهادية” التي لا يستبعد أن تتحالف معها لمقاومة “المستعمر” الأجنبي. وهو سيناريو سيدفع نحو مزيد من الفوضى، ويحول ليبيا إلى دولة فاشلة، ويعيد إنتاج المثال العراقي.
هنا نلاحظ، أن مسؤولية ما ألت إليه الأوضاع في ليبيا، تتحمل وزره القوي المحلية، التي لم تستطع التوافق حول مشروع وطني جامع، وتجاوز خلافاتها التي ورثتها عن حقبة القذافي، الذي عمد الى تهميش المؤسسات، ولم يعمل على بناء دولة حديثة. كما تعاطي مع الثروة كريع، لا كمصدر للتنمية، ومراكمتها لبناء وتشييد أركان دولة حديثة، تؤمن خدمات لمواطنيها.
كما أن المسؤولية، عن تدهور الأوضاع في ليبيا، بعد الإطاحة بمعمر القذافي، يتحملها أيضا الغرب، الذي فشل في المساهمة في بناء الدولة، بعد تدخل قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو). وكأنه –الغرب – لم يكن يدرك أن إسقاط القذافي عملية سهلة، لكن إعادة بناء دولة مستقرة، في بلد له تركيبة قبلية عملية صعبة ومعقدة. وقد زاد التدخل الإقليمي والدولي، في تأخير الوصول إلى تسوية سياسية.
لعل تواصل تعقد الأوضاع في ليبيا، الذي نتوقع أن يستمر في المدى المنظور، جعلها تتحول إلى خطر على الأمن الإقليمي والدولي. وهو ما سيعجل بالتدخل العسكري، الذي يبدوا الأقرب الآن –برغم وجود تسوية سياسية مسنودة دوليا-، بل لا نبالغ بالقول أن قرار الحرب في ليبيا قد أتخذ، وأن هناك ترتيبات جارية على الأرض لتفعيله، بمجرد أخذ الغطاء والشرعية من حكومة “التوافق الوطني”.
ب/سيناريو التوافق الوطني
برغم أن سيناريو التوافق الوطني، هو الأفضل بالنسبة لليبيا والليبيين، بشهادة كل الباحثين والمهتمين بمسار تفاعلات الأحداث في ليبيا خلال الخمس سنوات الأخيرة. إلا أن حظوظ تجسيده في الواقع تبدوا صعبة وصعبة جدا اذا لم تكن مستحيلة. وذلك بالاستناد الى الصعوبات الكثيرة التي يتداخل فيها الداخلي بالخارجي، والتي تعيق انجاز مثل هذا السيناريو الطموح.
إن مهمة الوصول الى التوافق الوطني، تبقي رهينة فنح حوار وطني بدون إقصاء لكل فعاليات المجتمع الليبي، وهو “يقضي بأن يكون هنالك توافق بين أغلب الجهات ويتم تحييد المتطرفين في الجانبين. وسيسمح هذا السيناريو، لو تمّ، بالاتفاق على حكومة وفاق وطني وعلى آليات للعمل السياسي وعلى العمل على استتباب الأمن، وبالتالي ستُحل ظروف المواطن بتوفير حاجياته والخدمات الاجتماعية المتعطلة، والتي يحتاجها الليبيون من تعليم وطب وتوظيف. ويمكن في هذا السياق التفكير في فيدرالية جديدة في ليبيا، من شأنها تقوية السلطات المحلية تحت ظل سيادة الدولة الليبية”.
نشرت صحيفة “الغارديان” مقالا في عددها الصادر الأربعاء/ 25-2-2015/ تحت عنوان “ليبيا بحاجة إلى دبلوماسية لا قنابل”. بينت فيه الصحيفة، أن ليبيا أصبحت دولة فاشلة بامتياز، حيث تسبب فراغ السلطة بها، في انزلاق البلاد نحو فوضى كاملة، حتى أصبحت مرتعا للجماعات المتشددة المتناحرة، التي بايع بعضها تنظيم الدولة الإسلامية، ويزداد نفوذها في أنحاء متفرقة من البلاد، إضافة إلى سيطرتها على موارده النفطية.
وحذرت “الغارديان”، من أن استمرار تدهور الأوضاع في ليبيا، ينذر بتحولها إلى صومال جديدة، على أعتاب أوروبا، فهي أرض جديدة واعدة للشبكات الجهادية. كما ستساهم بموقعها المتوسط بين أوروبا وأفريقيا، في أن تصبح الشبكة الرئيسية للهجرة غير الشرعية، وما يترتب على ذلك من عواقب سواء للمهاجرين الذي يبتلع البحر الآلاف منهم كل عام، أو للدول الأوروبية المحيطة.
وتمضي الصحيفة للتأكيد، على أن أزمة ليبيا لا يوجد لها سوى حلين لا ثالث لهما، الأول هو التدخل العسكري، الذي ترجحه بعض الدول، والثاني هو الطريق الدبلوماسي، ودعم جهود التوصل إلى حكومة وحدة. وترى “الغارديان” أن الحل الدبلوماسي، هو الضمان الوحيد لإنقاذ ليبيا، من المستنقع الحالي، وأنه يتعين على الغرب دعم الحوار بين الميليشيات المتناحرة، بكل ما أوتيت من قوة إذا أرادت أن تتجنب عواقب الأزمة. واستبعدت الصحيفة، أن تؤدي الضربات العسكرية، كالتي شنتها مصر بعد قتل 21 من مواطنيها، إلى أي نتيجة سوى جذب المنطقة إلى هوة سحيقة، لا مخرج منها من المواجهات الإقليمية.
استنتاجات
في ليبيا، على خلاف تونس ومصر، لاحظنا أنه تم تغييب الشارع، بعد الثورة، ما يجعلنا نتساءل أين الحراك الاحتجاجي ؟ أين ضغط الناس على الحكام ؟
هذا ما يقودنا، للقول بأن استعادة حيوية الشارع، في المشهد الليبي، غير متوقعة، مثلما هو حاصل ومتوقع في تونس ومصر، التي يمكن المجازفة بالقول أن الشارع فيهما أصبح منهكا، وبالتالي من الصعوبة بمكان إعادة تحريكه، مثلما حصل في ثورة يناير 2011. يعلق الباحث المصري، وحيد عبد المجيد، على سيناريو قيام ثورة ثانية في مصر، قائلا “غير أنه يصعب ترجيح هذا الاحتمال أيضا لأن المجتمع صار منهكا على نحو يحول دون إمكان تقدير مدي قدرته على الحشد المنظم مرة أخرى خلال أشهر أو حتى سنوات قليلة”. /19/
يغلب على موقف الناس في ليبيا اليوم، وجود خيبة أمل مما ألت إليه الأوضاع، لدرجة التحسر على زمن معمر القذافي، من هنا فان كل السيناريوهات، لا يمكن لها أن تحقق جزءا ولو بسيطا من الآمال التي علقها الناس على الثورة، تلك الآمال التي دفعت الملايين من الليبيين للخروج للشوارع، ومواجهة القذافي وأجهزة نظامه القمعية بصدور عارية، وسقوط الآلاف من الضحايا، وما نجم عنه من تدمير كل البنية الأساسية للدولة الليبية.
الآن وهنا، نري أنه تم إجهاض حلم الليبيين، الذي برز اثر سقوط نظام القذافي. ففي الأيَّام التي أعقبت الثورة الليبية، عندما أنهت الانتفاضة الشعبيةن حكم معمر القذافي، الذي استمر لاثنين وأربعين عامًا، كانت ليبيا مفعمة بالأمل. في شهادة لأحد الصحفيين على الأيام التي تلت سقوط النظام، يقول “لم أشاهد قَطّ من قبل مكانًا اختلطت فيه هواجس التشاؤم مع التفاؤل إلى ذلك الحدّ المؤثّر، حيث اجتمعت حشود المواطنين وكانوا مصمّمين بكلّ حزم وإصرار على تأسيس مؤسَّسات مسؤولة وديمقراطية. وفجأة امتلأت جميع أنحاء البلاد بالصحف والمجلات والنوادي والجمعيات والمنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية. لقد ظهرت حينها حيوية هذا المجتمع الذي كان مقموعًا طيلة هذه الأعوام بالرقابة والعنف”. /20/
كما نود ان نشير، الى ما ذهب له الباحث المصري، وحيد عبد المجيد من مخاوف، من أنه و على غرار ما حصل في تونس ومصر، فان “هذه السيناريوهات تحمل في طياتها ما قد يدفع إلى القلق من انغلاق الأفاق الرحبة التي فتحتها هذه المشاركة وما اقترن بها من حضور جموع الشعب في المعادلة السياسية لأول مرة في التاريخ”./21/
هوامش وإحالات
1/ حوار لمبعوث الأمم المتحدة، مارتن كوبلر، مع اذاعة “سوا” الأمريكية، راجع الرابط التالي:
http://m.radiosawa.com/a/libya-martin-kobler-isis-government/304107.html/
2/ مقال “الشتاء العربي”، نشر المقال في الإصدار المطبوع، لمجلة “”الايكونوميست”، بتاريخ 9 كانون الثاني/يناير 2016.
3/ نظرة على “أبرز القوى السياسية والعسكرية المتصارعة في ليبيا”، الرابط التالي
http://www.dw.com/ar/%D9%86%D8%B8%D8%B1%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D8%A8%D8%B1%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D8%B9%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7/a-17646480
4/ المرجع السابق
5/ //سعد الدين ابراهيم، المجتمع والدولة في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1988، صفحة 108
6/ /من مقدمة بن خلدون//
7/ نظرة على أبرز القوى السياسية والعسكرية المتصارعة في ليبي
http://www.dw.com/ar/%D9%86%D8%B8%D8%B1%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D8%A8%D8%B1%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D8%B9%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7/a-17646480
8/ السنوسي البسيكري، ” ليبيا: اللاعبون المحوريون واستراتيجياتهم”، الرابط التالي:
http://studies.aljazeera.net/ar/events/2014/02/2014220114816409847.html
9/ مارتن كوبلر، مرجع سابق
10/تقرير منسوب ل “دعش” حول الأهمية الاستراتيجية لليبيا بالنسبة للتنظيم، الرابط التالي:
http://www.almasryalyoum.com/news/details/642636
11/ منذر بالضيافي ، “النهضة.. الهروب من المعبد الاخواني”، نشر تونس قرطاج، مارس 2016
12/ يوسف محمد جمعة الصواني، ليبيا.. الثورة وتحديات بناء الدولة، مركز دراسات الوحدة العربية،سبتمبر 2013، صفحة 18
13/ المرجع السابق
14/ المرجع السابق
15/ المرجع السابق
16/ حال الامة العربية ..2014-2015 الإعصار: من التغيير إلى تفكك الدول، المستقبل العربي، أيار/مايو 2015
17/ اقليم مضطرب: كيف تري مؤسسات ومراكز الفكر الغربية الشرق الأوسط في عام 2016؟، تقرير المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية، القاهرة، الرابط التالي:
18/ أهم مراكز البحث المؤثرة في العالم، أنظر المرجع السابق
19/ وحيد عبد المجيد، مصر .. الى أين ؟ (حلقة نقاشية)، المستقبل العربي، أكتوبر/تشرين الأول 2012، العدد 404
20/ هشام مطر، موقع قنطرة،الرابط التالي:
http://ar.qantara.de/content/lyby-wlhrb-lhly-bd-thlth-snwt-mn-sqwt-lqdhfy-lfwd-fy-lybyntyj-lsnwt-lqm-lqdhfy
21/ وحيد عبد المجيد، مرجع سابق.
Comments