مبادرة اتحاد الشغل للحوار الوطني .. أي فُرصٍ للنجاح؟
المهدي عبد الجواد
بعد طول انتظار وربّما تردّد، بادر الاتحاد العام التونسي للشغل بعرض مبادرته على رئيس الجمهورية، ثم قام بنشر فحواها على العموم. وسرعان ما تواترت ردود الأفعال من مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، بين مُتفائل بقدرتها على النجاح والاسهام في “انقاذ” البلاد، و مُشكّك ليس في نتائجها فقط بل في جدواها وفاعليتها.
ويعُود التردّد الى أسباب مختلفة، بعضها يعود للسياق الوطني العام وما يشهده من احتقان وتجاذب وانقسامات حادة، وبعضها يرجعُ الى “غياب” شروط الحوار نفسها، وعدم وضوح رؤيا جماعية حول مشروع وطني جماعي.
في الانقسام الوطني
تتميّزُ الساحة السياسية بانقسام حادّ، لا يُوفّر أدنى فرص “انعقاد” الحوار فما بالك بنجاحه في الخروج بنتائج ملموسة. فقد بادر رئيس الجمهورية، المحمول عليه المساهمة في الإشراف على هذا الحوار بإعادة “إحياء” المنطق الاقصائي، وكرّر خطاباته المَمْجوجة حول “المُتآمرين” والخونة و”العاملين في الظلام على تهديم أركان الدولة”. وأكّد أن الحوار لن يتمّ مع “الفاسدين” في إشارة إلى حزب قلب تونس أو بعض الشخصيات الوطنية التي قد يتمّ استدعاؤها للمشاركة او الإشراف على الحوار، دون استناد الى أحكام قضائية وقام باستقبال السيدة سهام بن سدرين في إحياء للتجربة السيئة لما سُمّي عبثا “العدالة الانتقالية”، في خطوة توحي بردّ خفي
على تعيين رئيس مجلس النواب لمحمد الغرياني آخر أمين عام للتجمّع مستشارا سياسيا مُكلّفا بالمصالحة. رسالة استقبلها بسرعة محمد عبو مؤسس التيار الديمقراطي الذي دعا الرئيس الى عدم إشراك قلب تونس وربّما الدستوري الحرّ في مداولات الحوار.
عبير موسي نفسها أكدت عدم مشاركتها في الحوار، الذي تعتبره “عملية تجميل للمنظومة الهدامة ومحاولة لإنقاذها” مُكرِّرَةٍ رفضها الجلوس مع “الاخوان”. نفس هذا التشاؤم عبّرت عنه مجموعة من القيادات السياسية والنواب، فالصافي سعيد وحاتم المليكي النائبان المستقلان شكّكا في جدوى الحوار وزهير حمدي أمين عام التيار الشعبي أكد انه سيكون فاشلا.
إتحاد الشغل نفسه، بادر بهده الدعوة دون تنسيق مع ما عُرف بالرباعي الراعي، بل إنه لم ياْخُذ في الاعتبار بعض القوى المدنية الجديدة المؤثّرة مثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو هيئة الخبراء المحاسبين وممثلي المهن الحرّة وممثلي منظمتي الأعراف.
وضع اجتماعي مُتفجّر
تأتي هذه الدعوة للحوار في ظل وضع اجتماعي مُتفجّر. فالاعتصامات الشبابية تكاد تُصيب البلاد في مقتلٍ. وتشلّ عمليا قطاعات كبيرة بشكل أثّر على الحياة العادية للمواطنين وزاد في تفاقم تدهور المرافق العمومية والخدمات والتزوّد بالحاجيات، زادها تواصل “الحجر الصحي” سوءا. هذه الوضعية الخطيرة دفعت اتحاد الشغل ثم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بعد نوع من التردّد إلى التبرّؤ منها، والدعوة الى التصدي إليها بكل قوة وصرامة.
هذه الاحتجاجات الجهوية التي تقودها “تنسيقيات” محلّية طلعت كــ “الفُقّاع”، اتخذت طابعا قُصوَوِيًّأ “مُتوحّشا” زاد في مُعاناة الناس ويأسهم من إمكانية إصلاح حقيقية للوضع، وتغيير سريع للأوضاع المتعفّنة، وعمّق الفجوة بينهم وبين المؤسسات والفاعلين الرسميين، وهو ما يُفسّر حالة اللامبالاة العامة، التي ميّزت ردود أفعال المواطنين من هذه المبادرة.
هذه الاحتجاجات الاجتماعية تزامنت مع سلسلة من الإضرابات “الوحشية” التي عطّلت اشتغال القضاء لمدة تجاوزت الأسبوعين، ومعها إضراب القيمين والقيمين العامين الذين يهددون بمقاطعة امتحانات الثلاثية الأولى، كما شنّ عمال “الستاغ” إضرابا لمدة أسبوع ومعهم احتجاجات الصحفيين والمهندسين، وتمّ غلق منطقة الحوض المنجمي والمنطقة الصناعية وتُشنّ إضرابات أخرى في أقصى الصحراء، في حقول شركة ENI للنفط.
الاتحاد… إخلاء الذمّة
هذا الوضع المُتفجّر يُلقي ضرورة بظلاله على الحوار الوطني، فالظروف التي ساهمت في إنجاح تجربة الحوار سنة 2013، ليست هي نفسها هذه المرّة. إن اتحاد الشّغل ظلّ وفيّا لعُمقِه الوطني ولدوره التاريخي “خيمةً جامعةً” للتونسيين على اختلاف مشاربهم، ولكنه يجدُ نفسه هذه المرّة في وضعية مُعقّدة وصعبة.
وليس ثمّة في الحقيقة مؤشّرات موضوعية وعقلانية مادية على فرص نجاح مُبادرته. اتحاد الشّغل قد يكون بصدَدِ إخلاء الذمّة من كل مسؤولية في تدهور الوضعية العامّة بالبلاد، وذلك بوضع الجميع رؤساء ومؤسسات وأحزابا ونوابا ومنظمات أمام مسؤولياتهم في إفشال حوار وطني للإنقاذ. إنه بصدَدِ إِشهَادِ التونسيين على هذه النّخبة التي أُبتليتْ بها البلاد والعبادُ.
وإن كان للاتحاد بعض الحقّ في عملية الإشهاد هذه، فإن إضاعة فرصة الحوار سيزيد الأمر سوءا. فهذه النّخبُ “العقيمة” لم تفهم بعدُ أن “التوافق الوطني” حول أمهات القضايا بشكل يصوغ مشروعا جامعا هو الحلّ الوحيد والمُمْكن للخلاص الوطني الجماعي، وأن المصالحة الوطنية الشاملة التي تسمحُ بتهدئة الأجواء المُحتقنة، هو العلامة الصّفر على الديمقراطية وقيمها.
Comments